أحدثت التحولات السياسية المفاجئة للرئيس التركي طيب رجب
أردوغان نحو موسكو بعد الانقلاب الفاشل في 15 يوليو/ تموز 2017 صدمة شديدة في أوساط إسلامية واسعة حسب مراقبين ومحللين.
وعجَّت مواقع التواصل الاجتماعي بأسئلة غاضبة حول دوافع تلك التحولات وبواعثها في هذه المرحلة العصيبة من مسيرة الثورة السورية، إذ كيف يتوجه الرئيس أردوغان نحو موسكو، الضالعة في الحرب الشرسة التي يشنها النظام السوري وحلفاؤه على قطاعات واسعة من الشعب السوري؟
فما هي بواعث تلك التحولات؟ وما هي دوافع أردوغان في توجهه نحو موسكو في هذه الظروف القاسية التي تواجهها الفصائل السورية المسلحة، والتي أفضت إلى خسارة المعارضة السورية لمدينة حلب بالكامل، وبسط النظام سلطته عليها؟
بواعث التحولات التركية ودوافعها
أرجع الإعلامي محمد عقل المختص بالشؤون التركية، بواعث التحولات الأخيرة في السياسة التركية إلى ما اكتشفته القيادة التركية من ضلوع الولايات المتحدة الأمريكية في الانقلاب الفاشل، ما أثار حفيظة القيادة التركية ضد أمريكا، لأنها تتعامل معها كعدو وليس كحليف.
وجوابا عن سؤال "
عربي21" كيف ترجمت
تركيا تلك التحولات في سياساتها الخارجية؟ قال عقل: "بدأت تركيا بمعالجة القضايا الشائكة بينها وبين كل من روسيا وإيران والعراق، واتجهت إلى موسكو، التي وجدت في ذلك فرصة سانحة لاختراق الناتو عبر تركيا".
وعن تأثير تلك التحولات على مسار الثورة السورية، ذكر عقل أن تركيا أقنعت قيادات المعارضة السورية بجدوى الحلول السياسية بالتوافق مع روسيا، وبأقل الخسائر الممكنة، في ظل الظروف الصعبة القائمة، بمعنى إمساك العصا من منتصفها.
وتوضيحا لدوافع تركيا حول مسار الحلول السياسية وجدواها، لفت عقل إلى أن المعارضة السورية قبلت التفاوض للخروج من الأزمة، بعد أن اقتنعت أن لا أحد جاد في تسليح المعارضة بأسلحة نوعية من الدول التي تدعي أنها مؤيدة للمعارضة في حربها ضد النظام.
وانتقد عقل مواقف الإسلاميين المهاجمين للتحولات التركية الأخيرة، بأنهم يفتقرون إلى الثقافة السياسة، ولو كانوا يمتلكونها لما وقعت لهم كل تلك المصائب في دول عديدة، داعيا الإسلاميين إلى الالتفاف حول القيادة التركية، والوقوف خلفها، ودعمها دعما كاملا.
من جهته أوضح الكاتب التركي، إسماعيل ياشا أن "ما حصل هو إعادة ترتيب وتغيير أوراق قواعد اللعبة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل التآمر الأمريكي والأوروبي على تركيا، وعلى الثورة السورية أيضا، وتخاذل الدول الصديقة".
وقال ياشا لـ"
عربي21" إن "إيران منزعجة من التقارب التركي الروسي، وتداعياته المحتملة"، لافتا إلى أن "أنصار أردوغان يتفهمون دوافع التقارب التركي الروسي، ويرحبون به، لإيجاد نوع من التوازن ضد الضغوط الأمريكية والأوروبية، ولذلك هناك تأييد واسع له في صفوف أنصار أردوغان".
وأضاف: "كما أن هناك من يؤيد هذه الخطوات، ولكنه يحذر في الوقت نفسه من الوثوق التام بالروس".
وأشار ياشا إلى أن "معظم المعارضين لأردوغان كانوا يدعون الحكومة التركية إلى التفاهم مع روسيا، وهم ينتقدونه الآن بسبب التقارب التركي الروسي، بل يزعمون أن مواقف تركيا وسياساتها الداعمة للثورة كانت خاطئة منذ البداية، وأن التحول الأخير أثبت فشل تلك السياسات".
وتابع: "وهنا يتفق هؤلاء مع من يرون أن التقارب التركي الروسي "تحول على حساب الثورة السورية" على الرغم من اختلاف موقفهم من الثورة، والنظام السوري".
اختلاف مواقف الإسلاميين من التحولات
لتجربة حزب العدالة والتنمية التركي في السلطة، وقع كبير في أوساط الإسلاميين على اختلاف توجهاتهم، فمنهم من يراها نموذجا رائدا في العمل السياسي الإسلامي، ومنهم من ينظر إليها باعتبارها تجربة تركية خاصة، علمانية التوجه والتطبيق، ولا تمت إلى الإسلامية بأية صلة.
لكن التحولات الأخيرة في السياسة التركية، أربكت حتى أنصار حزب العدالة والتنمية، وأقلقت مؤيدي أردوغان، في إطار بحثهم عن تحليل تلك التحولات وتفهمها وفقا لمحللين.
في هذا السياق رأى الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، ساري عرابي أن "سبب اختلاف الإسلاميين في تقييم تجربة أردوغان مركب، فهو من جهة متعلق بتوصيف أردوغان نفسه إن كان يمثل استمرارا لتجربة الحركة الإسلامية التركية، أو أنه انفصل عنها تماما".
وأضاف: "ومن جهة أخرى يتعلق الأمر بخيارات أردوغان وسياساته، سواء في العمل على أرضية الدولة الحديثة أو في السياسات الخارجية". وإضافة إلى الوعي بالسياقات المختلفة، فثمة من يرى أن نسخ التجربة ممكن، وثمة من يرى أن نجاح التجربة متعلق بسياقات خاصة لا تتوفر في البلاد العربية.
وجوابا عن سؤال "
عربي21" لماذا استهجن إسلاميون سياسات أردوغان الخارجية التي يصفونها بالتحولات في الفترة الأخيرة؟ قال عرابي: "لا يوجد ما هو مستغرب في سياسات أردوغان الخارجية في هذه الفترة، فعلاقات تركيا بالكيان الصهيوني، بالرغم من بعض محطات التوتر ظلت قائمة، وتتنامى في المجال الاقتصادي، وكانت دائما ما تعود إلى التعاون الأمني والاستخباراتي".
أما عن دعم الأتراك للثورة الروسية، فظل محكوما بسقوف متدنية، لكن هذا لا ينفي حدوث استدارة أشبه ما تكون بحني الرأس للعاصفة، فحكم أردوغان اليوم مكشوف، إذ يتحرك بلا حلفاء إقليميين أو دوليين وفقا للكاتب الفلسطيني عرابي.
ولفت عرابي إلى "أن الغرب أظهر رغبة واضحة في إقصاء أردوغان، بينما كشف الانقلاب أن سنواته في الحكم لم تنجز التحولات المطلوبة بعد على هوية الدولة التركية وبنيتها ووظيفتها".
بدوره اعتبر الباحث المصري المهتم بالشأن التركي، مصطفى زهران "المشكل الحقيقي في التعامل مع التجربة الإسلامية التركية بوجه عام هو إسقاطات هذه الحالة على الواقع المشرقي الذي يختلف عنها بشكل كبير".
واستذكر زهران في حديثه لـ"
عربي21" خلفيات التجربة التركية الإسلامية المحافظة، بما لها من ميزات وخصائص وتكوين ثقافي وفكري نابع بالأساس من السياق المجتمعي التركي، والذي لم يتأثر بشكل أو بأخر بمحيطات مجتمعية أخرى".
وأوضح زهران أن تجربة حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسها أردوغان، لم تنفك عن إطارين أساسيين، أولهما: ممارسة العمل السياسي التام دون إطار أيدلوجي يتشح بالأيدلوجية الدينية، حتى وإن كانت في مضامينها صوفية الذوق، وثانيهما: مراعاة البعد المجتمعي المتنوع والمتباين، الذي ينتمي في غالبيته إلى علمنة قائمة منذ عقود.. وهو ما أكسب تجربتهم بعدا واقعيا.
وفسر الباحث المصري زهران لـ"
عربي21" طبيعة العلاقة بين الحركات الإسلامية والتجربة التركية، بأن الأولى بحثت عن "بنوة" لهذا التيار وتشدقت بما لا يطيقه هذا النوع من الإسلام المحافظ ذي التجربة السياسية الحزبية الأقرب للعلمنة، واعتبرته امتدادا لها، وهو ما لم يكن ولن يكون على الإطلاق.
وتابع: "أكبر دليل وشاهد على ذلك هو حجم الانتقادات التي باتت توجه لتجربة أردوغان من تلك الدوائر الإسلامية في المشرق العربي، لتقاربه مع إسرائيل، وتحالفه مع الروس، وتراجعه في الملفات الأخرى، وهو بالأساس ليس تراجعا، بل يمكن اعتباره تصالحا وتقاربا أكثر مع مشروعه الحزبي الذي انطلق من أجله".
وخلص زهران إلى القول "إن مشروع أردوغان يكمن في تقديم حسابات الدولة التي يعمل من داخلها على أي توجه أيديولوجي آخر، لذا فإن حزبه وأعضاء حكومته يعملون ضمن سياقات الدولة، ومن منظورها المؤسسي، وليس الجماعي والحركي كما يحدث في كثير من بلداننا العربية التي يختلط فيها السياسي مع الديني، والمصلحة الفردية والشخصية مع المصلحة العامة، وتبقى الدولة أسيرة تلك الطموحات الذاتية المعبرة عن الجماعة لا عن الدولة".