عندما تم استدعاء قضية الديمقراطية، في الخلاف التركي – الهولندي، قلت هذا فيلم قديم، فقد ذكرني القوم بالذي مضى!
فعندما تحرك الجيش الأمريكي، بهدف احتلال العراق، وخرجت المظاهرات في القاهرة تندد بهذه الجريمة، كان السفير الأمريكي على موعد مع أسامة الغزالي حرب في مكتبه بمؤسسة "الأهرام"، وإذ شاهد السفير المظاهرات المنددة، فقد أبدى دهشته لمستضيفه؛ لأن الشعوب العربية تفضل الاستقلال على الحرية والديمقراطية، فهي تتظاهر ضد الجيش الأمريكي الذي جاء محررا له من القمع والاستبداد الذي يقوم به صدام حسين في العراق، وغيره - بكل تأكيد - في أقطار عربية أخرى!
ومن الواضح أن عدوى الدهشة انتقلت إلى "الغزالي حرب"، فأصبح مندهشا، وهو في هذه الحالة نقل دهشة السفير الأمريكي في مقال نشر بـ "الأهرام"، وقد رددت عليه بمقال نشر في جريدة "الراية" القطرية، إذ كنت في هذه الفترة ممنوعا من القراءة والكتاب في مصر، في ظل العهد الذي لم يقصف قلما، ولم يصادر صحيفة، ولم يسجن صحفيا. ومما قلته إن الحرية والديمقراطية ليستا مطروحتين على جدول أعمال الغزاة.
غني عن البيان، أنني كنت قد هاجمت النظام العراقي كثيرا من زاوية انتهاكه للحريات، لكن عندما دقت الولايات المتحدة الأمريكية طبول الحرب، كنت مدركا أن البيت الأبيض الراعي الرسمي للاستبداد في عالمنا العربي، لا يمكن أن يحركه لغزو العراق تغييب نظامه للحريات، وتكميمه للأفواه، وكان السفير الأمريكي في دهشته يمارس التضليل، مع "متأمرك" سرعان ما نقل دهشته لنا، ومثل دور "المندهش"، لإدخال الغش والتدليس على المصريين!
ليس عندي دفاع عن الرئيس التركي "أردوغان"، فلست مطلعا على ملف الحريات في بلاده، الذي تقف اللغة حائلا دون أن نفهم تفاصيل ما يدور فيه، وليس في يد "أردوغان" من دنيا أريدها، ولا تمثل لي "الخلافة الإسلامية" غواية ولو عاطفية، فلست منحازاً فيها إلا لسنوات الخلافة الراشدة، وقد تحولت بعدها إلى ملك عضوض، حسبي إيماني بأن حرية الناس مقدمة عندي على الفتوحات، وعلى زخرف الحياة الدنيا، فتقديم "أردوغان" في خطاب بعض الإسلاميين الآن على أنه السلطان العثماني، أمر لا يمثل لي دافعا للطرب. ولست – كذلك – مندمجاً مع خطاب المباهاة به، على قاعدة أن القرعة تتباهى بشعر ابنة أختها!
ولهذا، فالموقف الوحيد الذي وقفته مع الرئيس التركي كان ضد الانقلاب العسكري، وقد تبدت فيه عورات الغرب للناظرين، الذي لم يدن الانقلاب إلا بعد أن دحره الشعب التركي، وبدا واضحاً أن بعض العواصم الغربية ضالعة فيه، وكثيراً منها كان يقف في انتظار إزاحة الرئيس المنتخب للتصفيق لهذا العدوان على الديمقراطية كما حدث في مصر!
يسعدني بكل تأكيد، أن "أردوغان" طوى صفحة حكم العسكر في تركيا، بذات القدر الذي تسعدني فيه انجازاته، فالرجل من زمن البنائين العظام، وما التفاف الشعب التركي حوله، إلا تقديرا لدوره في إعادة البعث في مدينة "اسطنبول" منذ أن كان رئيسا لها، وفي إحياء تركيا منذ أن أصبح في الحكم، وهى تجربة ملهمة لنا في مصر، كما مثلت الثورة الإيرانية في بدايتها، إلهاما للمستضعفين في الأرض، بقدرتهم على هزيمة الاستبداد، ولو كانت واشنطن نفسها هى من تسهر على بقائه وتحمي جرائمه، وقبل أن ينحرف الورثة، بهذه الثورة، لتصبح "رديفاً" للثورة المضادة، التي خرجت ضد الربيع العربي!
ولعل من المناسب هنا أن نذكر أن "أردوغان" قبل أن يحسب على جناح الشرعية في مصر، فإن تجربته الناجحة في الحكم مثلت إلهاما عاما ويكفي أن نقول إن أنصار كل من الفريق أحمد شفيق، واللواء عمر سليمان، كانا يقدمان كل واحد منهما على أنه "أردوغان مصر"، قبل أن يشيطنه إعلام الثورة المضادة، وإن كنت أعتقد أن هذا الإعلام لم ينجح في مهمته. ولا تزال تجربة اردوغان في الحكم ملهمة، وشموخه وهو يواجه قوى الاستكبار العالمي يمثل قيمة عند غالبية المصريين، حتى أولئك الذين يؤيدون السيسي، وهم يرونه في كل المحافل الدولية في مؤخرة الصفوف!
وهذا بيت القصيد، ففي معركة "أردوغان" الأخيرة مع هولندا، كان تمثيلا للعزة وللكرامة، وقد حصحص الحق، بدخول عاصمة أخرى على الخط، وقيام الصحافة هناك في عناوينها الرئيسية وباللغة التركية بدعوة الأتراك إلى عدم التصويت لصالح التعديلات الدستورية، التي تنتقل بتركيا إلى النظام الرئاسي، وليست الديمقراطية مرتبطة بأي من النظامين، فهناك دول غربية تأخذ بالنظام الرئاسي، وأخرى تعتمد النظام البرلماني، ولم يقل أحد أن هذا النظام أفضل من ذاك، وهذا هو لب المشكلة؛ فالقضية ليس لها علاقة بالديمقراطية والاستبداد، فهى معركة ضد الاستعمار يخوضها "أردوغان" نيابة عن الأمة!
فالاستعمار الغربي لم يرحل عن بلادنا، إنما سلمها لطغمة صنعها على عينه، وهى طغمة عسكرية وإن وجدت استثناءات، وبتسليمها الحكم كان الاستعمار بالوكالة، فكل أهداف الاستعمار تحققت بفضل هذه الأدوات التي استلمت الحكم، فهل يعقل أن تسعين ضابطاً من صغار الرتب في مصر يسقطون حكماً، ويعزلون ملكا، ويغيبون جيشا، وفي ظل وجود الاحتلال الانجليزي؟!
لقد كان الاستعمار بهذه الخطوة يستعد لمرحلة جديدة، هى الأقل كلفة عند تقدير الفواتير فلن يواجه عساكره بمقاومة تكبدهم الخسائر، ولن يضطر المحتل للإنفاق على المستعمرات، ثم إن الطبقة الحاكمة الجديدة ستمكن من تحقيق أهداف الاستعمار بتخلف هذه الدول وفي الاستمرار في نزح خيراتها للكفيل حيث يقيم، وفي استمرار التبعية!
وعندما أراد "صدام حسين" أن يتمرد على هذا الاتفاق القديم، كان لابد أن يتحرك الجيش الأمريكي، ليتولى تأديبه ليكون عبرة لمن يفكر مستقبلاً في التمرد، وبعد أن أعاد العراق إلى العهد الحجري ونهب ثرواته سلمه إلى العملاء الجدد!
وأصل الحكاية، أن "أردوغان" أبى إلا أن يكون حاكماً حراً لبلد حر، فلم يكن جزءاً من اتفاقات المستعمرين مع أدواتهم في هذه المستعمرات، ومن هنا فقد رأى القوم أنه "خرج في المقدر" وتجاوز حدود الأدب، فكان التواطؤ مع انقلاب عسكري يعيد تركيا إلى حظيرة الاستعمار، حيث لا يرى المستعمر له وجوداً إلا من خلال العسكر، الذين صنعهم على عينه!
وكما نجح العسكر في مصر، في الاستيلاء على الحكم، واختطاف الرئيس المنتخب، فقد ظنت قوى الاستعمار العالمي أن هذا جائز في تركيا، لكنهم فشلوا بخروج الشعب التركي دفاعا عن إرادته، والصمود الأسطوري لقائده، ومرة أخرى يتدخل الغرب باسم حقوق الإنسان دفاعاً عن الانقلابيين، وقد كان الرأي الصحيح أنه بالتعديلات الدستورية فإن الرئيس "أردوغان" سيحكم سيطرته أكثر على الحكم، فكانت هذه الضجة، ووجد من بيننا من يؤوب مع قوى الاستعمار بالحديث عن الديمقراطية، كما لو كانت القضية هى في سعي الزعيم التركي لأن يكون سلطانا فوق الأمة!
إنه استدعاء قسري لقضية الديمقراطية في معركة هى في الأساس ضد الاستعمار الذي لا يزال جاثما على صدورنا؟!
فأين كانت الديمقراطية، والعسكر في مصر يطيحون بإرادة الشعب المصري بجرة بيادة، فيجد الانقلاب اعترافا من كل العواصم الأوروبية، ومساندة من البيت الأبيض لا تخطئ العين دلالتها، ويقوم هذا الحكم الانقلابي بأكبر مجزرة في التاريخ الحديث عندما استباح حرمة النفس وحرمة الجسد الإنساني فصمت الغرب على هذه الجريمة، كما لو كان الضحايا مجرد ذباب هشه العسكر في مصر!
وأين كانت الديمقراطية، والجيش الأمريكي يقوم بانتهاك حقوق الإنسان في العراق، وصار ما جرى في سجن أبي غريب عنوانا للإجرام وليس تقليدا له، وهو انتهاك جرى بواسطة الأمريكان وفي ظل رئاسة خالد الذكر "بريمر"!
إن "أردوغان" يخوض معركة التحرر الوطني، فلا تصدق دعايتهم، وأحذرهم أن يفتنوك.