ارتبط قيام الجمهوريات في فرنسا أو سقوطها، إما بتغيير النظام، أو بتغيير الدستور، أو بهما معا. فمنذ قيام الثورة عام 1789، شهدت فرنسا خمس جمهوريات خلال التواريخ التالية: 1792 و1848، و1870ـ 1875، و1946، وكانت آخرها الخامسة، التي لعب "الجنرال ديغول" دورا مفصليا في قيامها، بمقتضى دستور 04 أكتوبر/ تشرين الأول 1958، وهو ما يعني أن الجمهورية الخامسة ستُنهي ستين سنة بحلول العام القادم (2018). بيد أن النقاش حول الانتقال إلى جمهورية سادسة، بدأ مترددا في فرنسا منذ سنوات، قبل أن يتخذ منحى عميقا وواسعاً مع رئاسيات وتشريعيات 2017، وقد تزداد حدته مع طبيعة النتائج التي أسفر عنها هذان النوعان من الاقتراع، ونوعية النخب والممارسات السياسية التي ستحكُم الحياة السياسية الفرنسية.
تأسست الجمهورية الخامسة الفرنسية على فلسفة قوامُها القطيعة مع روح الجمهورية الرابعة (1946- 1958)، والممارسات السياسية التي كانت في أصل انهيارها. وقد أراد لها الأب المؤسس "الجنرال ديغول"، أن يكون لرئيس الجمهورية في بنائها الدستور سلطة الفصل، وأن تتم عقلنة عمل برلمانها، وتتحدد وتستقيم أدوار أحزابها المتنافسة، وهذا ما حصل فعلا، وما دأبت الممارسة عليه طيلة عقود من الزمن، حيث تركزت جوهر السلطات في مؤسسة الرئاسة، لاسيما بعد تعديل عام 1962، الذي أصبح الرئيس بمقتضاه منتخباً مباشرة من الشعب، وتناف.ست على ممارسة الحكم قوتان رئيسيتان، هما إما "الديغوليون" أو الجمهوريون لاحقا، أو الاشتراكيون، ومن يدور في فلكهم. غير أن الجمهورية الخامسة سرعان ما بدأت تُراكم العناصر الطاردة لها، ابتداء من بروز ظاهرة "التساكن Cohabitation"، التي لم يتصور حصولها قطعا واضعُ دستور 04 أكتوبر/ تشرين الأول 1958، حيث يكون الرئيس من لون سياسي، والأغلبية البرلمانية من لون سياسي آخر، وانتهاء بتقهقر القوى السياسية الأساسية وتراجعها إلى الخلف، بل و تحقيقها نتائج واطئة لم تعرفها في تاريخها الحزبي، كما حصل للاشتراكيين أساسا، والجمهوريين إلى حد ما. وقد ظهرت ، بالمقابل، قوى وأحزاب جديدة يصعب وسمُها بالتصنيفات المألوفة خلال الجمهورية الخامسة، من قبيل "اليمين"، و"اليسار"، كما هو حاصل مع القوة الأولى الآن في فرنسا "الجمهورية إلى الأمام".
لنتأمل في التغييرات الجوهرية الجديدة، التي يمكن اعتبارها مقومات مُشجعة على قيام جمهورية سادسة في فرنسا. فمن جهة، وكما أسلفنا القول، انتهى التصنيف الذي ساد خلال الجمهورية الخامسة بين "اليمين"، و" اليسار". فحركة "إيمانويل ماكرون" الجمهورية إلى الأمام، الني ولدت في أبريل 2016، لا تخضع لتصنيف اليمين واليسار، وهي واقعيا تضم في عضويتها اليمين واليسار معا، كما أن رؤيتها لتسيير البلاد تنهل من المرجعيتين معاً، وزعيمها نفسه ـ الذي قادته الحركة إلى قصر الإلزيه ـ كان وزيرا للاقتصاد، حين كان الاشتراكي "فرانسوا هولاند" رئيساً للدولة. ثم إن الأغلبية الجديدة في الجمعية الوطنية، التي ستدعم سياسات الحكومة ومؤسسة الرئاسة، لها سمات مختلفة تماماً عن التقاليد المتراكمة خلال عقود حكم الجمهورية الخامسة. فالنتائج المعلن عنها عقب اقتراع 19 يونيو/ حزيران 2017، جددت ثلاثة أرباع أعضاء المجلس، حيث سيدخل قبة البرلمان (الجمعية الوطنية) 432 عضوا جديدا من أصل 577، هو العدد الإجمالي لأعضاء الجمعية الوطنية، وهذا معطى لافِت لم تشهده الجمهورية الخامسة من قبل. يُضاف إلى ذلك نوعية الأعضاء الجدد وخلفياتهم، فهم في عمومهم شباب، ذكورا وإناثاً، ونسبة كبيرة منهم من المجتمع المدني.
من مقومات بروز انعطاف جديد نحو قيام الجمهورية السادسة، تراجع النقاش الإيديولوجي، والتركيز على القضايا الاقتصادية ، وما تتطلبه مستلزمات العالم الجديد، أو العولمة بتعبير آخر. والحقيقة أن خطاب الرئيس الجديد "إيمانويل ماكرون"، ينهل الكثير من هذه المستلزمات، وربما يشكل أحد مصادر تفوق حركته، وتحولها إلى أول قوة سياسية في زمن قياسي جدا. فـ"ماكرون"، القادم من عالم المال والاقتصاد، والذي لم يخبر السياسة، بمعناها التنظيمي والحزبي، دافع بتفاؤل واصرار كبيرين على قدرة فرنسا والفرنسيين على الانخراط دون تردد في العالم الجديد، أي العالم المُعولَم، بل وتحمل مسؤولية الريادة فيه، إلى جانب الدول الكبرى، عوض التخوف منه، ومن تداعياته، والتقوقع والانزواء.لذلك، نرى حركة "الجمهورية إلى الأمام"، كيف استغلت بكثافة ممكنات الثورة التكنولوجية الجديدة، وما تتيح من فرص للاشتباك والتواصل، وقد استعمل "ماكرون" في حملته الرئاسية، واستثمر أعضاؤه ومرشحوه الوسائل نفسها في الظفر بما ظفروا به.. نحن إذن أمام قوة سياسية مختلفة جذريا من حيث وسائل عملها عن نظيراتها في الجمهورية الخامسة.
يمكن للرئيس "ماكرون" وحركته "الجمهورية إلى الأمام"، أن يقودا فرنسا نحول ميلاد الجمهورية السادسة، أولا عبر الممارسة السياسية التي سيتم الشروع في مراكمتها من موقع مؤسسة الرئاسة والأغلبية البرلمانية المريحة، والتي ستقود ثانياً إلى وضع دستور جديد يؤرخ ويرسم ميلاد هذه الجمهورية الجديدة. لكن أصعب ما تنطوي عليه السياسة توقع المستقبل والتنبّؤ بمآلاته على وجه اليقين، فحتى الآن نجح "ماكرون" وفريقه وحركته في الفوز بالرئاسة، وبالأغلبية البرلمانية المريحة، يبقى عليهم جميعا تحويل الفوز إلى نتائج حقيقية في الواقع الفرنسي، عبر إعادة القوة والمناعة للاقتصاد الفرنسي، وضبط توازناته، وتقليص البطالة إلى الحد الأدنى، وردم الفجوات بين الفئات والجهات، تثبيت الأمن والأمان في ربوع البلاد، وإعادة تعزيز نكانة فرنسا في العالم.. تلك هي التحديات التي ينتظر الفرنسيون من "ماكرون" وحركته تجاوزها بأقتدار خلال هذه العُهدة (2017- 2022).