كشفت الأزمة المُستجدّة في منطقة الخليج العربي وجود رؤى مختلفة، وآليات متباينة، للتعاطي مع أسبابها، وسُبل تجاوزها. بل كان كافيا مرور شهرين على اندلاعها للتمييز بين خطابين متناقضين حول مُسوغات الأزمة والشروط والحلول المطروحة في شأنها. فمن جهة، هناك خطاب الرباعية العربية (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)، الذي حمل منذ الإعلان عن الأزمة مستهل يونيو/ حزيران 2017 عناصر حكم متضمِّن صكّ الاتهام ونوعية العقوبة، وشروط الخلاص، وقد تمّ الشروع في تطبيق بنوده فور الإعلان عنه، بالمقاطعة، التي تحولت مباشرة إلى حصار، الذي لم تنجُ منه حتى الإبل المتنقلة على جنبات حدود الإخوة الأشقاء. ونظير هذا الخطاب صاغت قطر خطاباً آخر متسماً بالدعوة إلى احترام السيادة، والاستقلالية، واعتماد سبيل الحوار والتفاوض والمصارحة في النظر إلى جوهر الاتهامات ومنهجية المعالجة والحلِّ.
كان طبيعيا أن تخرج الأزمة الخليجية من نطاقها المحدود، لتكتسي أبعاد إقليمية ودولية، كما كان منتظراً أن يبحث كل طرف من طرفي الأزمة عن تحالفات من أجل تعزيز صدقية خطابه، وجلب أكبر المكاسب من الحلول المنتظرة. لكن ما كان يجب أن يظل حاضرا في أي عمل دبلوماسي يُغلب العقل، ويرجح النجاعة، ويروم التوازن، هو أن تكون خطواتُه مدروسة بتبصر ووعي، وأن يوازن صناعُه بين الممكن والمستحيل، وبين الأرباح والخسائر، وأن يحرصوا على الإبقاء على "شعرة معاوية"، أي خط الرجعة، لأن السياسة في النهاية، وأزمة الخليج العربي تحديدا سياسية بامتياز، هي فن تدبير "تنازع المصالح"، والحال أن التدبير يقوم أصلا على التوافق بالحوار، والبحث عن المشترك، ونبذ الممارسة المبنية على "نظرية الفارس الوحيد" théorie du cavalier seul. لذلك، وهذا ما أصبح ملاحَظا بشكل لافت، بدأ خطاب الرباعية العربية يفقد تماسكه، وقوة إقناعه، مع مرور الأيام، وتعاقب الأحداث، ونشر المعلومات المفنِّدة لعدم صحة الاتهامات الموجهة لقطر، لعل آخرها تقرير الخارجية الأمريكية ، وما نشرته جريدة Washington post ، ذائعة الصيت.
لننظر إلى مضمون ما ورد في خطاب أمير قطر (21 يوليو/ تموز2017)، وهو الخطاب الرسمي الأول منذ اندلاع الأزمة، ونستخرج المبادئ المميزة لرؤيته حُيال الأزمة، والمنهجية التي قدرها أمير البلاد واقعيةً وناجعةً لتجاوز ما آلت إليه العلاقات الخليجية ـ الخليجية.
ثمة مصفوفة من المفردات والتعابير الواردة في نص الخطاب، والتي يمكن الارتكاز عليها لاستخراج طبيعة رؤية القيادة القطرية لجوهر الأزمة الخليجية وسبيل أو سُبل حلها. لكن قبل استعراضها، نشير، إلى أن ليس قصدنا في هذا العمود تحليل المعلَن والمُضمَر في هذا الخطاب، أو ربط المفردات بالسياقات، أو الاستعانة بوقائع خارج الخطاب لفهم الظاهر منه والباطن. وإنما الغرض الوقوف عند مصطلحات لها دلالات خاصة في القانون الدولي، وفي العلاقات بين الدول بشكل عام.
استعمل الخطاب مصطلحات السيادة، الاستقلال، الحصار، الحرية (حرية التعبير)، الحوار، التفاوض، التعجيز، وهي في مجملها محكومة بخيط ناظم، قوامه أن قطر دولة مستقلة وذات سيادة، والتعامل معها في حال التعاون أو عند الصراع والاختلاف، يجب أن يكون محكوماً بقواعد القانون الدولي والمبادئ المستقرة في ممارسة نُظمه السياسية. لذلك، كان التشديد على أن قطر دولة مستقلة وذات سيادة، وأن الطريقة التي اعتمدتها الرباعية العربية من اتهام، وإملاء شروط بدون الاستجابة لها، لن يتأتى رفع المقاطعة والحصار، تتناقض في جوهرها مع مبادئ القانون الدولي، وغير مقبولة في التعامل بين الدول، فبالأحرى بين مجتمعات يربطها نسيج من الأواصر والقواسم المشتركة. ثم إن النظر إلى موقف الرباعية من زاوية الاتهامات والشروط، ومن باب الإجراءات التنفيذية التي أقدمت عليها دولها، يُؤكد أن الأمر لا يتعلق بمقاطعة، بالمعنى المُعطى للمصطلح في الأدبيات الدولية، بل بـ"حصار" شامل، حيث سُدت كل المنافذ على قطر، ولم يعد أمامها سوى ممر محدود عبر التراب الإيراني، والحال أن للحصار قواعده وإجراءاته في القانون الدولي، وهو ما رأى الكثير من المتابعين للأزمة الخليجية عدم توفرها في الحالة لقطرية.
لذلك، كان خطاب أمير قطر رافضاً لما انطوى عليه موقف الرباعية، سواء من حيث الاتهامات أو على مستوى الشروط. بيد أنه كان مشددا على أهمية الحوار والتفاوض من أجل الوصول إلى حلول للأزمة الخليجية. قد يرى البعض، خصوصا ممن يدافعون عن صحة موقف الرباعية، بأن القيادة القطرية لم تستوعب جيداً طبيعة الأزمة وخطورة عدم التعاون من أجل حلها عبر الامتثال للشروط الثلاثة عشر. وقد يذهب آخرون، وهذا ما عبر عنه الكثير من المحللين والمتابعين لتطور الأزمة الخليجية، أن موقف قطر كان متزناً ومتوازنا، وأنه تمسك بمبادئ القانون الدولي وقواعده، وأنه ظل على الدوام مفتوحاً على الحوار والتفاوض من أجل الحل، لكن ليس أي حل، إنه الحل الذي يصون سيادة الدول ويُحافظ على استقلالها.
نحن إذن أمام خطابين متباعدين إلى حد التنافر، وما يبدو حتى الآن أن مجمل الوساطات الإقليمية والدولية لم تُسفر بعد عن نتائج مشجعة على معالجة الأزمة. وإذا كان من الصعب توقع إلى أين ستؤول تطورات الأزمة، فإن من المؤكد أنها حدث بالغ الخطورة، ليس على العلاقات الخليجية الخليجية فحسب، بل على المنطقة برمتها، بسبب تعقد عناصرها، وتشابك أطرافها.