لا شك أن التطورات الحاصلة باطراد في كل من العراق وسوريا، وبعض جيوب تواجد أقدام "تنظيم الدولة الإسلامية" وأخواتها، قد تُعيد الأمل إلى إمكانية استمرار الحياة، وبسط الأمن ولو في شروطه الدنيا، في ربوع هذه البلاد..أما إعادة الإعمار والعودة إلى نقطة ما قبل التدمير فتلك قصة تحتاج إلى وقت، وتفكير، وتخطيط، وإمكانيات تفوق قدرة البلدان المعنية منفردة.
تؤكد مجمل الوقائع الحاصلة في الأرض العراقية (الموصل تحديدا)، و(الربوع السورية) (نقط تغلغل واستقرار التنظيمات المتطرفة)، على أن الحركات "الإسلاموية" في طريقها إلى الاندحار والزوال، وأن تطهيرها بالكامل مسألة وقت ليس إلا، وبتحقق هذا المشهد، ستنتهي حقبة من أشد الحقب قسوةً وعنفاً وتدميرا في المنطقة العربية، وستفتح ربما حقبة جديدة يكون عنوانُها الأبرز ما بعد "داعش"، وموت "الايدولوجيا الاسلاموية المتطرفة"، بكل ما تحمل من ممارسات مدمرة للحياة والبشر، ومشينة للإسلام ومضرة بقيمه. بيد أن السؤال الكبير الذي قد يُطرح، وسيُطرح لا محالة، سيكون ما بعد موت "داعش"، ومن سيملأ الفجوة والفراغ الناجمين عن اندحار هذه الإيديولوجيا وتعبيراتها التنظيمية والسياسية؟.
ليس سهلاً منهجياً وموضوعياً رسم خُطاطة عن البديل أو البدائل المُحتملة لما بعد زوال "تنظيم الدولة الإسلامية"، فالأفق مفتوح على أكثر من مسار وطريق قد تعرفه المنطقة العربية، وتكتوي به شعوبها ومجتمعاتُها، لكن من الممكن الإشارة بشكل نقدي إلى مواطن الوَهن التي وسِمت، ومازالت تسِمُ الواقع العربي، وتحدّ من حظوظ استرجاعه عافيته، والانطلاق نحو مستقبل أفضل.. والحقيقة أن حقبة هيمنة "داعش" وتمددها وقيامها بما قامت به من دمار طال روح الحياة في الإنسان، يمكن أن تكون مصدر استخلاص الدروس لما يجب القطع معه بالكامل، والتأسيس على نقيضه لما يجب أن يُعيد للمنطقة العربية قوة النهوض جديد، والقدرة على إنجاز بناء مُغاير لمجتمعاتها.
لعل أول درس يمكن استخلاصه والاسترشاد به في التفكير في ما بعد "داعش"، عدم ترك الفراغ الفكري والإيديولوجي تحت طائلة أي مبرر، وتجنب التفريط في بناء القواسم المشتركة، والتوافقات السياسية بالحوار الصريح والصادق، واعتبار المحافظة على كيانات العيش المشترك (الأوطان) مما لا يقبل المناقشة أو المساومة، وأن الاختلاف وهو فريضة محمودة لا يكون إلا في ما لا يضر ويقوض الكيانات الوطنية. الشاهد على قوة هذه الخلاصة من تجربة ما قامت به داعش، أن التيارات الفكرية والإيديولوجية الأساسية في المنطقة العربية، عجزت عن تجسير علاقاتها البينية، وعزّ عليها مراكمة ثقافة الحوار والتوافق، وصون كيانات العيش المشترك، سواء تلك الممارِسة للسلطة كليا أو جزيا، أو الموجودة في المعارضة.
وحين انطلق "الحراك العربي"، مع مستهل العام 2011، أو ما سمي "الربيع العربي"، وجدت روافعه الاجتماعية، من شباب وفئات كابدت ضيق العيش وظلم النظم، نفسها في مركبة بدون قائد، أي حراك بدون عقل يضع له الخطط ويرسم الآفاق، ويجنبه الانزلاقات، ويقوده إلى النجاحات، كما حصل في التاريخ الحديث، وفي أكثر من موقع في العالم في الربع الأخير من القرن العشرين. لذلك، كانت المناسبة سانحة لـ" الإيديولوجية الإسلاموية المتطرفة" وتعبيراتها التنظيمية من "داعش" وأخواتها لاستغلال الفراغ، والانقضاض على المنطقة .. والمحزن حقاً أن مجمل هذه التيارات الأساسية ظلت تتفرج على ما يجري في ربوع بلدانها، وترى أوطانها تتحول إلى قطع فسيفساء يوماً بعد يوم، و تُراقب مجتمعاتها وهي إما تموت بالذبح وأزيز الرصاص، أو تهاجر في كل الاتجاهات عسى أن تفلت بجلدها.
لكن بالمقابل، وهذا هو الدرس المُستخلص الثاني، تُثبت الوثائق الصادرة هنا وهناك، أن "تنظيم الدولة الإسلامية" لم يكن في إمكانه أن يظهر، ويتقوى، ويملأ الفراغ، لو لم يكن مدعوماً، ماديا، وتنظيمياً وتخطيطاً، من أكثر من مصدر دولي وجهوي.
والحال أن الوقائع في الأرض أثبتت أن الخاسر الأكبر، إن لم يكن الأوحد، في ظهور هذا التنظيم ووصوله إلى ما وصل إليه، وقيامه بما قام به، هو البلاد العربية، ومشروع العرب في أن يكون لهم مكانة ودور إلى جانب نظرائهم في العالم.
لنلاحظ على أرض الواقع ما حققت القوى الكبرى من مكاسب والمنطقة العربية تتجزأ بانتظام، وتتراجع إلى الخلف، وتتعقد حظوظ عودتها إلى سابق عهدها على عِلله وجوانب وهنه، ولنلاحظ كيف استفادت القوى الإقليمية من هذا الوضع، تركيا وإيران وإسرائيل تحديداً.. إنها اللعبة التي كثر فيها الرابحون، وكان الخاسر وحيدا وأوحد، أي البلاد العربية ومجتمعاتها.
هل ثمة قوى تستطيع الحلول إيجابياً محل الفراغ الذي خلفه، أو سيخلفه نهائيا اندحار "داعش"؟ وما هي هذه القوى، وما طبيعة إمكانياتها؟، وهل يسمح لها السياق الدولي والإقليمي بإمكانية أن تكون بديلاً إيجابيا ونافعا للمنطقة العربية؟
يصعب حقيقة الحديث بقدر من الجزم والوثوقية عن وجود بديل أو بدائل فعلية وناجعة لما بعد موت "داعش".. فصورة الواقع العربي رمادية، حتى لا نقول قاتمة، والضاغط من قسماتها على وعي الناس وإدراكهم الجمعي أنه لم يعد لدي ثقة في الموجود من التيارات الفكرية والسياسية، وحتى التعبيرات المعبرة عن المجتمعات الأهلية أو المدنية لم تعد مُقنعة بما يكفي قياساً لأدائها، وصدق ممارستها..نحن في الحقيقة أمام وضع موسوم بالتيه، وفقدان البوصلة ، وضعف وضوح المعالم، وهي كلها سمات طارٍدة لأي تفاؤل في الحديث عن البديل، أي عن المستقبل..لكن تعلم تجارب التاريخ أن وضاع من هذا النوع تمكنت شعوب كثيرة من "الانبعاث من الرماد"، والإمساك بمصيرها بيدها إن هي أرادت وصممت، وعملت بصدق في هذا الاتجاه.