يكثُر التساؤلُ عن العلاقة بين "الثقافة" و"السلطة"، أو بين صُناع الفكر والرأي وصُناع القرار السياسي، ويزداد الحديثُ حدةً حول هذه القضية في البيئات الموسومة بالتعقيد، كما هو حال البلاد العربية. والحقيقة أن العلاقةَ الصعبة والملتبسة في الكثير من الأحيان بين الثقافة والسلطة ليست حديثة النشأة، أي لم تظهر مع الشروع في بناء الدولة العربية الحديثة ، بل تمتد أصولها إلى تاريخ قديم. وإذا اعتبرنا الثقافة وجهاً من وجوه ما يُنتجه العقل البشري، وينتصر له، ويسعى إلى صيانته، فإن أدبيات كثيرةً تحدثت عن محنة العقل في الثقافة العربية، و في الثقافة العربية الإسلامية بوجه عام.
لنترك التاريخ جانباً، ونتحدث عن العلاقة الآن، كيف هي؟، وما هي طبيعتها؟، وما نوع الجسر الناظِم بين " الثقافة أو المثقف"، و" السلطة" أو " صانع القرار"؟. لاشك أن حالة العلاقة في المنطقة العربية ليست بخير، ولا تنطوي على مؤشرات دالة على تطورها نحو الأفضل في الأمَدين القريب والمتوسط. فالسلطة في عموم بلداننا مُتكوِّرة حول ذاتها، لا تعترف بمكانة الثقافة ولا المثقف، كما لا ترى جدوى في الأدوار التي من الممكن أن تلعبها الثقافة والمثقف في تنوير المجتمعات. كما أن المثقف نفسه يحمل في وعيه صورةً عن السلطة ومثالبِها، ويتوجس من كل قادم من أجهزتها ومؤسساتِها. وبهذا ظلت القطيعةُ السمةَ شبه المميزة لعلاقة المثقفين بمن يسُوسون شؤونَهم، ويتولون صياغةَ قراراتِ مصيرِهم.
لنتساءل إذن عن مصدر العلاقة غير الطبيعية بين " الثقافة" و " السلطة" في مجالنا السياسي العربي، ليس اليوم فحسب ، ولكن عبر تاريخنا القديم؟. و لماذا لم نتمكن من بناء جسور للتواصل بين مجالين يبدوان متنافرين، أي بين المعرفة والفكر والثقافة، بحسبها تُحيل على حرية الإبداع والاجتهاد والمبادرة،
و" السلطة"، بوصفها آلية ووسيلة للإكراه "المشروع" وغير المشروع؟.
ثمة زوايا متعددة للإمعان في فحوى هذا السؤال، والسعي إلى الإجابة عنه. لنقترح على القارئ الكريم النظر إلى أسئلة القطيعة بين " الثقافة" و" السلطة" من زاوية الثقافة ذاتها، والثقافة الديمقراطية تحديدا، ولنتذكر أن مسيرة الثقافة الحديثة في أوروبا والغرب لم تنفصل عن مسيرة الديمقراطية في هذه البلدان، فقد حايث البناء الثقافي نطيره السياسي، وقد لحمت الديمقراطية البناءين معا، ومكنتهما من المعنى الذي كانا في حاجة إليه. لذلك، شكلت " الديمقراطية" العلاج الشافي والدائم لاستقامة العلاقة بين "المثقف" و "السلطة"، و الإكسير الذي أقنع المثقف وممارِس السلطة على حدّ سواء بأهمية بناء الثقة بينهما، وقيمة اتكاء أحدهما على الأخر. نلمس هذه الروح في الرصيد المعرفي والفكري الذي شكل معين النهضة الحديثة والمعاصرة في أوروبا والغرب. تكفي الإشارة إلى مساهمة فلاسفة التنوير في ميلاد الدولة القومية الحديثة مع القرن السادس عشر، ونُشير أيضا إلى دور كتابات "الآباء المؤسسين" في بناء الأمة الحديثة في أمريكا، وصياغة دستورها ) 1787( ووضع مؤسساتها . والمسار نفسه ما زال قائما ومستمرا في الوقت الحاضر، لنمعن النظر في دور مراكز البحوث و" بيوت الخبرة" في صنع السياسات بشكل عام في أوروبا والغرب.
لذلك، مثلت الديمقراطية المُعاقة في مجالنا السياسي العربي مَوطن وجود القطيعة بين " المثقف" و " السلطة"، وأحد أهم أسباب استمرارها. ف" المثقف" في تراثنا القديم إما عاش تحت عباءة السلطان، أو ظل منبوذا و منكلاً به..وفي الحالتين معا لم يمتلك القدرة على ممارسة حريته واستقلاليته. وفي زمن إعادة بناء الدول الوطنية بعد جلاء الاستعمار واسترداد السيادة، وُلدت حالة من الجفاء والتباعد وعدم الثقة بين المجال الثقافي وفضاءات السلطة، وقُدّمت صورة مشوشة عن المثقف وصلت درجة التخوين والتشكيك في صدق وطنيته، لا لشيء سوى لأنه سعى إلى ممارسة وظيفته الطبيعية كمثقف ، أي نقد الواقع بُغية تغييره نحو الأفضل.
وفي سياق القطيعة نفسه، نلاحظ أن حتى حين عمّت البلاد العربية موجة من "الحراك الاجتماعي"، بقي الكثير من المثقفين مذهولين، غير مصدقين ما يجري حولهم، متسائلين عما ينطوي عليه هذا الحراك، وما تتوقع منه من آفاق. لذلك، كانت أدوارهم محدودة في مجمل البلاد العربية، وحتى الذين انخرطوا متأخرين في حراك بلدانهم، انقسموا على أنفسهم، وعجزوا عن تشكيل كتلة متراصة من أجل الدفع بجدلية التغيير نحو الأمام.. لنقارن، على سبيل المثال، بما قامت به شريحة المثقفين في مجمل البلدان التي شهدت انتقالا ديمقراطية خلال الربع الأخير من القرن العشرين) 1975 ـ 1995( ، ونمعن النظر في الثقل الذي كان لهذه الشريحة في نجاحات التجارب الانتقالية لمجتمعاتهم ؟.. إن تجسير الفجوة بين " الثقافة" و " السياسة" أكثر من مطلوبة، إنها ستفتح ،حين تحققها، أفقا جديداً في مجالنا السياسي العربي..إنه طبعا أفق التغيير نحول الأفضل.
فلو توقفنا عند نماذج كثيرة من مظاهر القطيعة بين مجالات المعرفة والفكر والثقافة، ودوائر السلطة وصنع القرار، سنلاحظ ، دون شك، حجم الفجوات الموجودة، وخطورة النتائج المترتبة عنها.. نلمس ذلك في دور الجامعات ومراكز البحوث، وبيوت الخبرة، والمؤسسات والجمعيات ذات الصلة بصناعة المعرفة وتسويقها، وبثها في وعي المجتمعات.. فبغير حصول اعتراف بمكانة الثقافة ودور المثقفين لن تتحقق العلاقة المطلوبة والمنشودة بين الثقافة والسلطة.