تجتاز الفكرة الخليجية مرحلة دقيقة الصعوبة منذ تحولها إلى مشروع للعيش المشترك عام 1981. ولئن تأرجحت العلاقات الخليجية الخليجية بين المد والجزر منذ سنين، فقد ظلت روح البناء الجماعي، والسعي إلى البحث عن المشترك، ورأب الصدع هي القاعدة، وما عدا ذلك مجرد استثناء، والاستثناء لا حكم له، أو لا حكم عليه كما يُقال. غير أن قرار الرباعية العربية ( السعودية والأمارات والبحرين إضافة إلى مصر) الصادر مستهل شهر يونيو الماضي، والذي دعا أصحابُه إلى مقاطعة قطر، ومحاصرتها من كل الجهات، أدخل الفكرة الخليجية مداراً نوعياً جديداً، لا يظهر على وجه اليقين كيف ستكون نهايتُه، ولا طبيعة نتائجه بالنسبة للجميع.
ثمة مصفوفة من الفرضيات يمكن الانطلاق منها لتصور أفق أو آفاق معينة لتطور أزمة العلاقات الخليجية. لنبدأ بالأسوأ من هذه الفرضيات، وهي الإمعان في التضييق على قطر، والإضرار ببلادها وعبادها، ودفعها دفعا إلى مسارب، ربما لا تفكر فيها، أو غير مقتنعة بها أصلا.. لكن ـ كما يقال، للضرورة أحكام،والضرورة هنا ستكون محكومة حتما بقاعدة " أخوك مكره لا بطل". أما وجوه الإكراه في طي هذه الفرضية، فهي "ارتماء قطر بلا تردد في أحضان إيران"، المنفذ الذي بقي لها بعد محاصرتها من كل الجهات، وتحويلها إلى رئة للتنفس اقتصاديا واجتماعيا. أما سياسياً فيلزم الإكراهُ قطر على توسيع دائرة حلفائها، والبحث عن حلفاء جدد، وربما قد يحصل ذلك بأي ثمن، وتحت طائلة أية كلفة..وفي كل الأحوال لن يخدم تحقق هذه الفرضية أي طرف من أطراف أزمة العلاقات الخليجية، طالما أن من جوهر أسباب هذه الأزمة مواجهة إيران ومشاريعها في المنطقة، كما تُجمع أطراف الرباعية العربية على ّذلك.
يمكن تقديم فرضية حصول حوار خليجي خليجي، إما بتعميق الوساطة الكويتية والتعاون معها قصد انجاحها، او بتفعيل آليات العمل المشترك في نطاق مجلس التعاون الخليجي، وإن بدت إمكانية تطويق الأزمة في نطاق مؤسسات العمل الخليجي المشترك شبه منعدمة، لأسباب ذاتية وموضوعية واضحة، أبرزها أن الأزمة في غمقها مركبة ومتشابكة العوامل، ويتقاطع في التأثير فيها الداخل والخارج، واندلاعها جاء في سياق خليجي ودولي زاد من حدتها، و أذكى صعوبة تطويقها والتسريع في حلها. يُنبه ضُعف تحقق هذه الفرضية إلى واقع الهشاشة الذي يطبع ما يسمى " العمل العربي المشترك"، في صيغته الاقليمية ( الجامعة العربية)، والجهوية ( مجلس التعاون الخليجي). ففي مجمل بقاع العالم تلعب الوساطات التي تقوم بها الدول منفردة، أو عبر مؤسساتها المشتركة أدواراً مركزية في رأب الصدع، وتجنيب أطراف الأزمات خسائرها المادية والمعنوية، وقد كان ممكناً، لو كان السياق غير الذي يخنق المنطقة العربية، أن يكون للوساطة الفردية أو المؤسسية أدوار فاصلة في حل الأزمات، أو على الأقل الحد من تفاقمها.
هناك فرضية ثالثة، وهي التي تروج لها كثيرا وسائلُ الإعلام، وتتوقع تحققها، تتعلق بتدخل الخارج، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، لما لها من ثقل ونفوذ، لحل أزمة العلاقات الخليجية. ويؤسس أنصار هذا الرأي قولهم على أن أمريكا طرف في المشكلة والحل معاً، بل يشدد الكثيرون على أن مع القيادة الجديدة في أمريكا ( فوز الرئيس ترامب)، اكتملت شروط اندلاع الأزمة بهذه الحدة، وبدون هذا البلد يصعب إيجاد مخرج أو مخارج لما يعتمل داخل منطقة الخليج العربي. لنتأمل إذن في مدى صلاحية هذه الفرضية، وقدرتها على ردم الفجوة بين الرباعية العربية من جهة، ودولة قطر من جهة أخرى.
من اللافت للإنتباه أولا أن السياسة الأمريكية حُيال أزمة العلاقات الخليجية تنطوي على أكثر من مفارقة، على ألاقل من حيث ظاهرُها. فبينما تدعو خارجيتها إلى التهدئة والبحث عن الحلول السياسية التفاوضية، تنحو مؤسسة الرئاسة في شخص رئيسها منحى مغايراً، يُستشف منه تأييده للرباعية، وتأكيده تورط قطر في دعم الارهاب.. وهو ما خلق غموضاً بخصوص فهم الموقف الأمريكي من الأزمة الخليجية. ثم إن لكل أطراف الأزمة من الخليجيين، علاقات استراتيجية مصلحية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإن بدرجات مختلفة.. فكيف تصطف أمريكا لجهة على حساب جهة أخرى؟. فهل يمكن، على سبيل المثال، تصور اصطفاف أمريكا إلى جانب الرباعية العربية من أجل محاصرة قطر، وهي تمتلك أضخم قاعدة عسكرية في قطر ( عشرة آلالف جندي)، ناهيك عن الاستثمارات المتبادلة؟. يدلنا المنطق والعقل على أن ثمة في الموقف الأمريكي الغامض الظاهر والباطن، وأن الظاهر ليس سوى نوع من توزيع الأدوار، أما الباطن فهو دفع الأطراف الخليجية إلى قمة الأزمة، وبعدها امداد دولهم بحلول تكون كلفتها ثقيلة لهم جميعا. والأدلة أمامنا واضحة، ولا تحتاج إلى دليل، فقد حصد " دونالد ترامب" في أول زيارة له للخليج ( السعودية) ما لم يحصد سابقوه من الرؤساء.. ةلعلها البداية فقط، أم ما سيعقبها فسيكشفه القادم من الأيام والسنين.
إن الخوف كل الخوف مما يحصل في الخليج أن تنتهي الفكرة الخليجية، وتموت مؤسساتها، وتتلاشى طموحات مجتمعاتهاـ في أن يبقى الفضاء الخليج المشترك، على نقائصه وعلله، إطاراً للجميع، ومجالا للتساكن والتعايش.. فقد ماتت كل التجمعات العربية الجهوية، بما فيها الجامعة العربية، التي لم تعد تعبر عن أي شيئ .. وبقي مجلس التعاون الخليجي مؤسسة اقليمية مشتركة، مستمرة ودائمة.. فهل سيموت هذا المجلس هو الآخر؟