هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أعادت المذكرة التي أصدرتها وزارة التربية الوطنية في المغرب الشهر الماضي، بشأن تنظيم التظاهرات الثقافية داخل الحرم الجامعي، الجدل مجددا عن واقع الجامعات في المغرب، وأثر مثل هذه المذكرة على منهج سياسي يسعى لعزلها عن محيطها الثقافي والسياسي.
وبينما بررت وزارة التربية مذكرتها بأن هناك من يسعى منذ مدة إلى استغلال هذه الحرية من أجل التشويش على الفضاء الجامعي من خلال زرع أفكار تزيغ عن مبدإ الاختلاف وقيم الديمقراطية التي طالما كانت الجامعة خير مدافع عنها، ما يتسبب في إثارة زوابع إعلامية وفي حدوث مشاداة ومواجهات بين الطلبة، فإن ذلك لم يقنع عددا من المهتمين بالشأن التعليمي في المغرب.
الكاتب المغربي الدكتور محمد الشرقاوي الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات وأستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن بواشنطن وعضو لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة سابقًا، واحد من الذين لم تقنعهم مذكرة الوزارة ومبرراتها، فنشر جملة من التدوينات على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، يناقش فيها طبيعة هذه المذكرة، ومن خلالها واقع الجامعة المغربية.
هذا أهم ما جاء فيها:
ثمة سؤال رئيسي في هذا الزمن غير الجميل: هل لدى المغاربة حاليا جامعة فكر متنوّر وإدارة الاختلاف بين أطروحات ومشارب فكرية متعددة تتعزز بها حداثة المغرب منذ تأسيس جامعة محمد الخامس عام1957، أم إنّ الجامعة تحوّلت إلى قلعة محصنة الجدران الأمنية ونقاط التفتيش الفكرية على طريق التقوقع على الذات ومحاربة التعددية والاختلاف الفكري والسياسي في حقبة ضياع البوصلة؟
تعليمات فوقية
أطرح هذه الأسئلة بعد أن تراءى لوزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي سعيد أمزازي أن يعتمد لغة "التعليمات الفوقية" ويأمر مدراء الجامعات بـ "عدم الترخيص لأي جهة خارجية باستعمال مرافق الجامعة أو المؤسسات التابعة من أجل تنظيم تظاهرات كيفما كان نوعها".
يبدو أن حصافة الوزير "الحاسم" قد أوصلته إلى حكم المطلق العدمي كما تغطس النّعامة رأسها في الرمل، وتغليب الإستثناء على القاعدة من خلال التلويح بتبريرات ضعيفة الحبكة من قبيل القلق على "سلامة العاملين بهذه المؤسسات من أساتذة وأطر إدارية وطلبة"، وكأن الجامعات المغربية أصبحت ساحة الوغى قد تنسل فيها السيوف من أغمدتها أو تُخرج فوهات المدفعيات كراتها النارية.
الأغرب من ذلك أن يتشدق بعض مستشاري "الألمعية" في ديوان الوزير على المغاربة بعبارة تنم عن لباقة سياسية مستهلكة قائلين "الحرية الأكاديمية والثقافية داخل الحرم الجامعي هي أساس الإبداع الفكري الخلاق الذي تميزت به الجامعة المغربية منذ تأسيسها وإلى حدود اليوم".
لم تتساهل الجامعات في أوروبا وأمريكا في حماية التعددية الفكرية وضمان حق الآخر في الرأي الآخر، وهي اليوم من ينمي قدرات النخبة على النقد ومساءلة مراكز السلطة. وإذا غاب هذا التفاعل بين الفكر ونقيضه حسب المنطق الهيجيلي، لا يكون للجامعة إشعاع فعلي لأنها تتحول إلى مصنع يعمل بمبدأ الإنتاج الكمي المتشابه mass production وليس النوعي لجيل يأمل أن يساعده التنوع والتضاد الفكري والإيديولوجي في تقديم اجتهادات جديدة.
أخشى على الجامعات المغربية أن تتحوّل إلى قلاع عالية الأسوار تعيد صدى الفكر الواحد، والرؤية الواحدة، ومغرب البعد الواحد. وآسف على حال رؤساء وعمداء وأساتذة تحلّلوا من عمودهم الفقري وأصبحوا من صنف الرخويات الأكاديمية مراعاة لضمان لقمة العيش وبعض المصالح الضيقة. ولا عجب أن تدخل الجامعة المغربية عصر الرخويات الفكرية على يد وزير رخوي بامتياز!
مفارقات مثيرة
هناك مفارقات مثيرة عند مقارنة أوضاع الجامعة والبحث العلمي بين المغرب وبقية دول العالم. فقبل ثلاثين عاما خلت، خاطب عالم الاجتماع الراحل محمد جسوس المؤتمر الوطني الرابع للطلبة الاتحاديين مدافعا عن حرمة الجامعة بحماسة قائلا: "لا خير في المجتمع المغربي إذا لم يراهن على الجامعة المغربية". واليوم تكاد أعيننا تختفي إلى الوراء في جماجمنا وتغرق أنفسنا في فيض من خيبة الأمل والحسرة، ونحن نأبى أن نصارح أنفسنا بما آلت إليه مؤسساتنا الأكاديمية. فتحولنا إلى مجرّد "كومبارس" غير نجيب في احتفالية هذا العام بجامعتيْ هارفارد وستانفادر على رأس قائمة أفضل الجامعات في العالم حسب مؤشر ويبومتريكس Webometrics لعام 2019.
قد نحتاج لأكثر من قارورة من دواء Pepto Bismol أو لجناح كامل من السوائل في الصيدلية للعلاج من عسر الهضم الحادّ لحقيقة أنّ لا جامعة مغربية جاءت في المراتب المائة الأولى، ولا الخمسمائة، ولا الألف، ولا الألف وخمسمائة الأولى ضمن تصنيف أفضل الجامعات في العالم، بل رَمَتْها المعضلاتُ المنهجية والإدارية والبنيوية وتآكل أخلاقيات البحث الأكاديمي من قبل بعض سماسرة المعرفة إلى مراتب "وراء الشمس".
تقف جامعة محمد الخامس في الرباط في المرتبة 1737 وهي محتشمة مرتبكة بتواضع إنجازاتها بعد اثنين وستين عاما من تأسيسها، تليها جامعة القاضي عياض في مراكش في المرتبة 1777، وجامعة محمد الأوّل في وجدة 2371، وجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس 2971، وجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء 3027، وجامعة بان زهر في أكادير 3233. ولم يكن وضع جامعة الأخوين التي تنحو منحى "جامعة النخبة المُعَوْلمة" أفضل من أخواتها في المرتبة 3293.
بخل وتقشف
كيف نصل المراتب الأولى بين المرموقات من جامعات العالم ونحن من أكثر الدول بخلا وتقشفا في ميزانية البحث العلمي؟! تستحضر هذه المفارقة مشهد وزير التعليم العالي والبحث العلمي سعيد أمزازي قبل أربعة أشهر وهو يعلن أنّ الحكومة خصّصت للبحث العلمي والتقني نسبة 0.8 في المائة من الناتج القومي الخام، وأنّ "المشكلة تكمن حقيقة في الإجراءات لصرف ذلك التمويل". فليعلم أيها الباحثون المستبشرون خيرا أن قلب الحكومة قد يكون متقشفا في سخائه، لكن يدها ستكون أكثر تقشفا وتقتيرا في الحرص على أموال الدولة!
كان من الأجدى أن يضرب السيد أمزازي وغيره من مسؤولي التعليم العالي بعض المقارنات مع دول من صنفنا وحجم تحدّياتنا: كوريا الجنوبية مثلا خصصت نسبة 4.92 في المائة (91.6 مليار دولار) عام 2014، وإسرائيل نسبة 4.3 في المائة (12.7 مليار دولار) عام 2015، والنمسا 3.1 في المائة (11.9 مليار دولار) عام 2015، والولايات المتحدة 2.74 في المائة (511.1 مليار دولار) عام 2016.
في المقابل، خصص المغرب 35.1 مليار درهم للجيش هذا العام بزيادة 2.3 في المائة عن الميزانية العسكرية لعام 2018 (34.3 مليار درهم). فاستحق بذلك المرتبة السادسة والعشرين بين دول العالم بتخصيصه نسبة 3.26 في المائة من الدخل القومي الخام للميزانية العسكرية الجديدة. ليس تمويل البحث العلمي من قبيل الترف أو الكماليات، بل أصبح سلاحا فعالا في يد الحكومات والمنظمات الدولية في رسم سياساتها الداخلية ومواجهة تحدياتها الخارجية، فلِم? يبق المغرب أسير مفهوم القوة الخشنة وتكديس العتاد دون الانفتاح على الاستراتيجيات الجديدة للقوة الذكية والقوة الناعمة وأخواتهما!
مفارقة أخرى قد تضيع بنا في مياه الأطلسي من وقع الفجوة الذهنية حول دور الجامعة بين مسؤولي التعليم لدينا ونظرائهم في الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة. في جامعة هارفارد، قرّر أستاذ الفلسفة السياسية مايكل ساندل Michael Sandel تقديم محاضراته في مادة "العدالة" مجانا عبر الانترنت وشاشات التلفزيون، ليتابعها الطلاب في الهند واليابان وجنوب أفريقيا وبقية دول العالم. فأصبح "الشخصية الأجنبية الأكثر تأثيرا في الصين هذا العام" حسب تصنيف مجلة China Newsweek. هكذا تتداخل المعرفة عضويا مع القوة، ويتحرك البحث العلمي في تكريسها عبر الأجيال وعبر الجغرافيات، أو هكذا تتعزّز مقولة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حول جدلية المعرفة والقوة.
على خلاف منطق الانفتاح والتعدّدية والتفاعل الفكري الإيجابي، قرّر السيد أمزازي النزول بقوة بأختامه "الأمزازية" وهو ربّما يتخيل من بعيد بعض الإيماءات السلطانية، ليأمر مدراء الجامعات بـ "عدم الترخيص لأي جهة خارجية باستعمال مرافق الجامعة أو المؤسسات التابعة من أجل تنظيم تظاهرات كيفما كان نوعها".
لا يعرف المرء من يمسك البوصلة إن وُجدت أصلا. لكن المؤكد أن الجامعة قد تتحرّك بهذه الحكمة المُصاغة، والأحكام المُطاعة، والوصايا المُصانة بين مسارين: أوّلهما، استخدام أجهزة الكشف الفكري Intellectual scanners عند بوابات الجامعات كنقاط تفتيش ذهنية ضدّ من يعارض حتمية الرأي الواحد ومغرب البعد الواحد من تقدميين ويساريين وإسلاميين، ومعادي التطبيع، وأصحاب الأسئلة الملحة وغيرهم من أنصار التفكير النقدي.
ثانيهما، رفع أسوار الجامعات إلى قلاع محصنة، وتحويل قاعات المحاضرات والنقاشات إلى غرف تردّد الصدى echo chambers. في هذه الغرف، لن يشعّ نور الألمعية في الأدمغة النيرة، ولن تحقق الجامعات اختراقات عملية أو تتحرّك إلى الأعلى في مصاف جامعات العالم، بل سيتم حشو الجماجم بأدبيات الفكر الواحد ورؤية الحزب الواحد وقوة المخزن الواحد، حتى يضمن السيد أمزازي أنّ كل الأمور "تحت السيطرة"، فيعزّز بالتالي أسهمه في الترشح لجائزة الاستحقاق الوطنية "نعم الخدوم، في هكذا أمور"!
قد يستيقظ الراحل محمد جسوس من قبره قريبا ليعبّر للسيد الوزير عن "تقديره وامتنانه" للوفاء بهاجس ظلّ يؤرّقه حتى وفاته، وهو أن يجازف المغرب باتباع "سياسة على صعيد التعليم والثقافة والتأطير الفكري والإيديولوجي، تحاول خلق جيل جديد لم نعرفه في المغرب: جيل الضبوعة".
لا أرضى لجامعاتنا المغربية أن تنتج جماجم الضباع، ولا أن تستكين وتذوب في وجه الأختام الأمزازية!