أعلم أنني أغوص الآن بقدمي في حقل ألغام. وعلى حد علمي، فإن كل
الإخوان المسلمين يؤمنون نظريا بأن كلام الإمام البنا ليس مقدسا، لكنك إذا اقتربت من أركان البيعة فدونها قطع الرقاب. لا أبالغ إذا قلت إن قطاعا كبيرا من الإخوان يمكن أن يقبل أن حد المرتد عن الإسلام ليس القتل، وأن حد الزاني المحصن ليس الرجم ولا يقبل نقدا في أركان البيعة.
بداية، وُضعت أركان البيعة تحت الأسس التنظيمية، رغم أنها محددات فكرية؛ لأن الإمام البنا جعلها شرطا من شروط التنظيم فقال في رسالة التعاليم "هذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين"..
وقد أوّل البعض أن هذه الرسالة كانت موجهة للتنظيم الخاص المسلح للإخوان المسلمين، والذي كان يحارب الاستعمار والصهاينة، حيث أنها تصلح حرفيا لفصيل مسلح يجب أن يكون على أعلى المستويات تدينا وإخلاصا وجهادا وطاعة وثقة، إلى غير هذا من أركان البيعة، لكنني لن أدخل في هذا الجدال وسأركز على كيف تتمثل هذه الأركان في عصرنا الحالي في تنظيم إخواني مدني، وكيف يراها عموم المسلمين اليوم.
لفظ البيعة
يعتبر البعض أن المسميات لا قيمة لها، وأن الجوهر هو الأهم وهذه ليست حقيقة. نحن نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يغير أسماء أصحابه إذا كانت غير جيدة، ونعلم أن الأسماء تعطي انطباعات وإيحاءات. مثال: هل يمكن أن يسمي أحد الآن أي مسجد باسم مسجد القاعدة أو مسجد الدولة الإسلامية؟!
يصبح أمر الأسماء أكثر حساسية حين يكون اللفظ له انعكاسات دينية. على سبيل المثال، حين قال أحد شيوخ السلفية في مصر عن جولة انتخابية بأنها "غزوة الصناديق"، أثار هذا التعبير (وما زال) العديد من الاستهجان من
الإسلاميين وغيرهم، إذ إن مصطلح "غزوة" مرتبط بمعركة مقدسه "يشنها المسلمون على الكفار" ويكون قائدها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه، وليس في مساجلة انتخابية بين مسلمين.
استخدام لفظ البيعة مرتبط ذهنيا على الأقل ببيعة ولي أمر المسلمين (الحاكم)، وهناك شروط ومواصفات فيمن يأخذ هذه البيعة، فهي ليست لأي حاكم جائر سفيه وعلى المبايع واجبات لا ينكث عنها ويأثم إن فعل.
بدأ الإمام البنا حياته في الطرق الصوفية وكان له شيخ مرشد، ومن وحي الصوفية التمس البنا لفظ المرشد والبيعة، وبما أن الطرق الصوفية كانت منتشرة حينذاك، فقد كان مفهوم البيعة عند عموم الناس والإخوان بأنه شبيه بالصوفية. لكن مع مرور الزمان أخذ المعنى الشرعي لبيعة إمام المسلمين يطبق على معنى بيعة الإخوان المسلمين.
على مدار العقود الماضية، استخدم بعض الإخوان (وليس الكل) في دول مختلفة آيات وأحاديث البيعة للتأصيل الشرعي لبيعة الإخوان المسلمين، وهو في ظني تلبيس للحق وإعطاء هذه الصبغة التنظيمية مرجعية شرعية ليست لها.
بالطبع، يمكن استخدام لفظ بيعة على أي علاقة بشرية؛ لأن استخدامها ليس حراما، أنا فقط أنبه إلى أن هذه بيعة خاصة، ويجب عدم تأصيلها شرعا. فنحن نعلم أن بعض الصحابة كان في معارك المسلمين مع الكفار يقول من يبايع على الموت، فهو كاتفاق على شيء ما في ظرف ما.
وإلا فإنه يجب أن تكون هناك بيعة بين من يعملون في جمعية رعاية أيتام أو أية جمعية خيرية أو دعوية، أو حتى حزب سياسي أو.. أو.. أو.. هذه توافقات تنظيمية أيا كانت صياغتها.
المقصود أيضا أن من خرج من الإخوان حتى من غير سبب فلا إثم عليه شرعا؛ لأنه لم يطرح جانبا البيعة الشرعية المقصودة لإمام المسلمين.
العلاقة التنظيمية بين الإخوان إذا هي من باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ليس إلا.
حتى لفظ العهد لا ينبغي أن يطلق عليها. لقد كنت في محاضرة وتحدثت كعادتي خارج الموضوع المحدد وتطرقت إلى هذه المسألة، فقام أحد الشباب المتحمسين وقال: هي عهد ومن يخرج يأثم لأنه نكث بالعهد، وآية المنافق إذا وعد أخلف، والله يقول: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا"!!
إلى هذه الدرجة تؤول الأمور حين توضع ألفاظ شرعية في علاقات تنظيمية.
إن أوثق اتفاق في الحياة هو الزواج الذي قال الله عنه بأنه ميثاق غليظ، ومع ذلك جعل الطلاق حلالا دون إثم يقع على أي من الطرفين إذا لم يحدث بينهم الود والتفاهم. فما بالك باتفاق مجموعة من المسلمين على عمل خير؟!
صيغة البيعة: تنوعت صيغ البيعة للجماعة من وقت لآخر ومن دولة إلى أخرى، حتى أن بعض الدول، كأوروبا مثلا، حذفت كلمة البيعة أو صيغتها من أدبياتها هروبا من إيحائها السلبي، كما رأوا ذلك منذ عقود.
وأنا على يقين أن الجيل الجديد لم يسمع بهذه الصيغ أو تطلب منه، ولكنني هنا أتحدث عن أدبيات الجماعة.
على ما توصلت إليه من مصادر كانت البيعة شيئا من هذا القبيل: "أبايعك بعهد الله وميثاقه على أن أكون جنديا مخلصا في جماعة الإخوان المسلمين، وعلى أن أسمع وأطيع في العسر واليسر والمنشط والمكره إلا في معصية الله، وعلى أثرة علي، وعلى ألا أنازع الأمر أهله، وعلى أن أبذل جهدي ومالي ودمي في سبيل الله ما استطعت إلى ذلك سبيلا. والله على ما أقول وكيل، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما".
كانت هذه الصيغة تقال للإمام البنا أو من ينوبه، فلما استشهد الإمام البنا رأى الإخوان أن تكون البيعة عامة وليست موجهة لشخص بعينه، كالمرشد، كما قال الشيخ القرضاوي حفظه الله صاحب هذا الاقتراح في مذكراته "ابن القرية والكتاب".
أن تشتمل البيعة على ألفاظ معينة استخدمت في بيعة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم مثل "على أن أسمع وأطيع في العسر واليسر والمنشط والمكره إلا في معصية الله، وعلى أثرة علي، وعلى ألا أنازع الأمر أهله"، توحي بأن هذه البيعة التنظيمية مثل تلك الشرعية، وحين تضيف إليها جزءا من آية كريمة تتحدث عن بيعة الصحابة. فأنت تلصق في الأذهان هذا المعنى الشرعي "فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما". وهي جزء من آية كريمة قال الله فيها: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما".
نحن نتحدث عن اتفاق تنظيمي وليس عن بيعة شرعية يأثم من لا يقوم بها. كان الأولى أن تسمى شروط العضوية أو الأسس التنظيمية أو
الفكرية أو ما شابه، أما لفظ البيعة وصيغه المأخوذة من القرآن أو السنة، فلا يجوز في مثل هذه العلاقات التنظيمية.
لفظ البيعة يجب عدم استخدامه حركيا وإن كان حلالا استخدامه شرعيا. يرجى الرجوع إلى
مخرجات ندوة ميلانو الشرعية في هذا الإطار.