إذا كان ركن الطاعة الذراع الأيمن في تكبيل جماعة
الإخوان المسلمين، فإن ركن الثقة كان الذراع الأيسر في هذه العملية.
وإذا كان ركن الطاعة تم تلبيسه رداء شرعيا ليس له، فإني لم أجد لركن الثقة كما قاله البنا سندا شرعيا اللهم إلا إحسان الظن بكل مسلم.
لنقرأ أولا ركن الثقة كما تحدث عنه الإمام البنا:
"الثقــة
وأريد بالثقة:
اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (النساء: 65).
والقائد جزء من الدعوة، ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات "فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ" (محمد: 20-21).
وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعا، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات.
ولهذا يجب أن يسأل الأخ الصادق نفسه هذه الأسئلة ليتعرف على مدى ثقته بقيادته:
1- هل تعرف إلى قائده من قبل ودرس ظروف حياته؟
2- هل اطمأن إلى كفايته وإخلاصه؟
3- هله هو مستعد لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه من القيادة في غير معصية طبعا قاطعا؛ لا فيها للجدل ولا للتردد ولا للانتقاص ولا للتحوير مع إبداء النصيحة والتنبيه إلى الصواب؟
4- هل هو مستعد لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة والصواب، إذا تعارض ما أمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص شرعي؟
5- هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة؟ وهل تملك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة العامة.
بالإجابة على هذه الأمثلة وأشباهها، يستطيع الأخ الصادق أن يطمئن على مدى صلته بالقائد، وثقته به، والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (لأنفال:63)".
(انتهى كلام البنا).
هذه المرة أيضا (من وجهة نظري ومع كل احترامي) لم يوفق الإمام البنا لا لفظا ولا مضمونا. فها هو بنفسه لا غيره يستخدم آيات قرآنية للتدليل على علاقة تنظيمية، وهو أمر غير مقبول جملة وتفصيلا.
أيضا مسألة اعتبار الأوامر الصادرة من القيادة لا مجال فيها للجدل ولا للتردد ولا للانتقاص ولا للتحوير مع إبداء النصيحة والتنبيه إلى الصواب؟ هي عبارة عسكرية لا مدنية شأنها شأن وضع ظروفك الحياتية الخاصة تحت تصرف القيادة تعتبر مبالغة في تنظيم مدني.
مسألة الثقة هذه وضعت القيادة في منزلة عالية، وجعلت التعامل معهم أو انتقادهم غاية في الصعوبة، كما أعطتهم هيبة أكبر مما تعطيه حتى لوالديك. فهم على حد قول الإمام؛ الوالد والأستاذ والشيخ والقائد، وكلها صفات تجتمع في فرد واحد هو مسؤولك التنظيمي، بينما أنا أراها تجتمع في شخص واحد؛ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم!!!
لا يوجد شيء في الإسلام اسمه ثقة مجردة هكذا. الثقة لا بد أن تصحبها الشفافية والمحاسبة.
أيمكن أن يثق مسلم في أحد كما يثق في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!
ألا نعلم الحديث المشهور: عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدّثته، ثم قمتُ فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءا، أو قال شيئا".
الرسول يبرر خروجه ليلا مع امرأة هي زوجته ليوصلها إلى بيتها!! لم يركن إلى الثقة ولم يقل لست بحاجة للتبرير!!!
على صعيد التطبيق العملي لهذا الركن من أركان البيعة، نجد أنه حين تنزل التكليفات والأوامر الصادرة من قيادة الجماعة إلى الأفراد يتساءل الأعضاء عن خلفيات القرارات، ولا يقتنعون بشروحات ولا حيثيات قرار مثلا، فتكون الإجابة من الأخ المسؤول (القيادة عندها الصورة كاملة وعندها معلومات أخري ليست عندنا، وكما تعلم ليست كل المعلومات لدي القيادة قابلة للنشر لكل الأعضاء. ثم أليس عندك ثقة في القيادة؟).
إذا تكمم الأفواه المعارضة للقرار بركن الثقة وينفذ القرار بركن الطاعة!!!
لم يستغل ركن الثقة في تمرير قرارات غير مقنعة فحسب، بل في تحصين القيادة من المساءلة والمحاسبة. تتذرع القيادة بالتضييق الأمني للتهرب من المحاسبة. لقد أعلنت حالة الطوارئ داخل جماعة الإخوان المسلمين منذ اغتيال الإمام البنا حتى اليوم فيما يتعلق بالدور الرقابي لمجالس الشورى، والتي لم تجتمع لتقوم بدورها المحاسبي لعقود (إلا نادرا) بدعوى التضييق الأمني، رغم أن ثمة هكذا تضييق لم يمنع المكاتب الإدارية من الانعقاد بأعداد تجاوزت 15 شخصا في أحلك أيام حسني مبارك. ماذا كان المانع من أن يجتمع 15 عضوا من الشورى مع كل عضو من المكتب الإداري على حدة لمحاسبته ومراجعة أدائه والوقوف على تنفيذ خطته؟! ولماذا لم تكن هناك مجالس شورية على مستوى المناطق والمدن تقوم بنفس الدور؟! ولماذا كان دور مجالس الشورى دائما في تعيين القيادة، ثم لا تجتمع إلا في إفطارات اجتماعية سنوية أو ما شابه ذلك؟!!
ليس عيبا أن يكون هناك تقرير مالي مفصل يصل للأعضاء ويناقش معها!! ولماذا تصل التكليفات التنظيمية في سرية كاملة إلي الأعضاء ولا تصل التقارير المالية المحاسبية على نفس النسق؟ وليس أيضا كفرا أن يسأل الأعضاء أين تذهب اشتراكاتهم المالية؟ ولا كيف توزع المعونات علي الأعضاء المحتاجين، ولا ما هي معايير هذه المعونات، ولا كيف تنفق الأموال في هذه القنوات التلفزيونية وكيف يعين العاملون فيها وكم يتقاضون.. وهكذا. ولا يجب أن يكون سرا كم يتقاضى أعضاء مكتب الإرشاد أو المتفرغون للعمل للجماعة. ولماذا حصل البعض على جنسية دولة ما ولم يحصل عليها آخرون؟ وما هي معايير الترشيحات لهكذا مميزات؟!!
آسف ألف مرة ركن الثقة لا يقدم الإجابة الصريحة على ثمة هكذا تساؤلات مشروعة!!
كما استُخدم ركن الثقة أيضا في تشويه كل المعارضين للقيادة، فالقيادة لا تحتاج لتوضيحات في تبرير تلميحاتها عن معارضيها، وهذا ما أسميه أسلوب "الضرب تحت الحزام"، فترسل رسائل خاصة إلى أعضائها أن لا تسمعوا لهاني مثلا؛ لأن عليه ملحوظات أو غير ملتزم أو لم يعد عضوا، أو حتى ربما عميل يريد تدمير الجماعة، وغيرها كثير مما تمارسه بعض القيادات وتصدقه للأسف جموع كثيرة من الإخوان تحت بند الثقة في القيادة.
إن ثمة هكذا تلميح أو تصريح يجعل نفوس الأعضاء تلقائيا تنفر من هذا الشخص وتتعامل معه بأسلوب الطفيل بن عمرو؛ حين استمع مبدئيا إلى نصيحة الكفار بألا يسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع القطن في أذنيه!!
إذا أردت أن تكون هناك ثقة، فلا بد أن تلجمها بالمحاسبة وتزينها بالشفافية.