تتهيأ الساحة الليبية لخوض معركة حاسمة ستحدد ملامح المرحلة القادمة. فالهجوم المضاد الذي أقدمت عليه القوات التابعة لحكومة الوفاق خلق المفاجأة، وغير الخارطة العسكرية الميدانية التي سبق أن فرضها
حفتر؛ سعيا منه ومن الأطراف المساندة له من أجل سيطرته على البلاد شرقا وغربا وجنوبا.
اختلف الوضع حاليا بعد أن أصبحت
حكومة الوفاق الوطني على مشارف مدينة سرت التي تعتبر مدينة استراتيجية بكل المقاييس، حيث كان القذافي ينوي أن يجعل منها بديلا عن العاصمة، بحكم كونها تربط بين الشرق والغرب، إضافة إلى اعتبارها المدخل نحو الوصول إلى منطقة "الهلال النفطي". إذ من يسيطر عليها يتمكن من أن يضمن لنفسه موارد حيوية ضخمة تساعده على تأمين نفسه ودعم قوته الذاتية، كما يستطيع أن يحاصر خصومه اقتصاديا وجغرافيا.
لهذا السبب ما أن وصلت قوات الوفاق إلى هذه النقطة الاستراتيجية حتى اضطر الجميع للتحرك لمنع المعركة، أو محاولة توجيهها تحسبا للنتائج التي ستترتب عنها. لا يتعلق ذلك فقط بالقوى العسكرية المعنية مباشرة بالمواجهة، ولكن أيضا الدول الكبرى والدول الإقليمية المهتمة مباشرة بالشأن الليبي. فالانتصار أو الهزيمة لا يتعلقان فقط بالمجموعات المسلحة المنتمية لهذا الطرف أو ذاك، وإنما تنطبق أيضا على مختلف الحكومات المتنافسة على ثروات
ليبيا، والتي تدخلت عمليا في الملف الليبي سواء بطلب من قبل المتنازعين المحليين أو رغما عنهم.
تضاءل دور حفتر وحجمه كثيرا دون أن يختفي من المشهد، رغم
محاولات البعض النفخ في صورته. فالقوى الداخلية والخارجية التي اعتقدت في قدرته على "الحسم العسكري" خابت آمالها واهتزت حساباتها.
في هذا السياق، تبعث
شهادة غسان سلامة على الحيرة والدهشة. يقول الرجل بعد أن أنهى مهمته في ليبيا إن أغلبية أعضاء مجلس الأمن كانوا مؤيدين لهجوم حفتر، بل إن بعض هذه الدول لم
تدعم حفتر فقط، بل تواطأت عمدا ضد عقد الملتقى الوطني الجامع بمدينة غدامس. ووصف سلامة سلوك هذه الدول بـ "النفاق".
لم يكن مجلس الأمن راغبا فعلا في وقف النزاع المسلح رغم قراراته المتعددة الداعمة للحل السياسي. يرفعون الشعارات ويعملون في اتجاه معاكس لها، حيث كانت الدول الفاعلة داخل المجلس تراهن على انتصار حفتر، لا خدمة للشعب الليبي ولكن من أجل حماية مصالحها بتقاسم
الثروة النفطية من جهة، وتشغيل مصانعها وشركاتها عند الانتقال إلى مرحلة إعادة تعمير ليبيا.
في هذا المنعرج الخطير تدخلت تركيا بكل ثقلها في الملف الليبي. يمكن من الناحية النظرية اعتبار ذلك تدخلا مرفوضا، لكن نظرا لكونه ليس التدخل الخارجي الوحيد، ونظرا لأن بقية الأطراف الدولية لم تكن جادة في عدم المس بالسيادة الوطنية الليبية، وحيث أن القرار الليبي المستقل لم يعد واردا في السياق الراهن، تمكنت
الخطة التركية المفاجئة من قلب موازين القوى، وإنقاذ حكومة الوفاق من سقوط كان وشيكا. وهنا استعاد المخيال الأوروبي شبح الخلافة العثمانية التي وقفت في وجه القوى الأوروبية لمدة قرون، وبين الطرفين حساب تاريخي.
ما يجري حاليا هو سعي محموم من أجل تجنب
معركة سرت ومنع انفراد "الوفاق" بالسيطرة على مناطق النفط. الجميع يهددون بعدم السكوت إذا قرر السراج التقدم نحو تجاوز هذا "الخط الأحمر" بهدف وضع المنطقة الشرقية في حالة دفاع وتهديد مباشر. مصر تتوعد وفرنسا تهدد ودول أخرى عديدة تحذر، لكن في حال عدم التوصل إلى صيغة مطمئنة للممسكين بالسلطة في طرابلس، فإن كل الاختيارات تبقى واردة.
الحديث عن الشرعية الدولية أمر هام في هذه المرحلة، لكنه خطاب مهزوز ومطعون في مصداقيته. يكفي للتدليل على ذلك النظر في ما آلت إليه تجربة غسان سلامة عندما أوصلته الممارسة الفعلية والشخصية إلى القول بأن "
النظام الدولي متضعضع تماما"، وأن "قادة دول مهمة لم يعد لديهم ضمير". هذا يعني أن ليبيا بكل ثقلها الجغرافي والاقتصادي موضوعة فوق مائدة الكبار وأتباعهم؛ لنهبها وتقسيمها وفق رغبات وشهوات الأقوياء. لقد تم تحويلها عمليا إلى "صومال جديدة"، حسب اعتقاد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.
في ضوء هذه التطورات لن تستطيع
تونس أن تشعر بالاطمئنان الاستراتيجي إلا عندما تسكت المدافع في ليبيا، ويتم بناء الدولة الليبية من جديد بعيدا عن التدخلات الأجنبية. في انتظار الوصول إلى هذه النتيجة الصعبة يجب أن تتجاوز تونس
حالة "التيه الدبلوماسي"، حسب تعبير السفير التونسي السابق محمد الحصايري، الذي تدخل في ندوة نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بمعية رابطة تونس للثقافة والتعدد حول السياسة الخارجية لتونس. كلمة التيه يعني غياب الرؤية وانعدام الوسائل والإمكانيات الذاتية.
ابتعد الخطر العسكري قليلا عن الحدود التونسية بعد أن استعادت حكومة الوفاق السيطرة على طرابلس، غير أن ذلك أمر مؤقت ما دامت الحرب بين الأشقاء مستمرة، وما دامت موازين القوى متحركة في هذا الاتجاه أو ذاك.