لا شك في أن التوجه الإسلامي لأردوغان يسعد العالم الإسلامي والتيارات الإسلامية، ولكنه في نفس الوقت يقلق الغرب، وهذا الوجه هو السبب في التأثير في نظام الحكم والسياسة الخارجية في
تركيا. وإذا كان
أردوغان قد أحسن حتى الآن إدارة الملف الداخلي والخارجي بكل تعقيداته، فلا شك في أنه في لحظة معينة سوف تتشابك الخطوط وتواجهه، ولكنه لا يتمتع بالمرونة بحكم ازدواج الشخصية التركية. وأرجو أن يعلق الأتراك على ذلك، لأنني أكتب حسب فهمي وربما تكون هناك عوامل أخرى يجهلها المراقب الخارجي. فهي محاولة منى لتفسير المآزق التي أراها في سياسته الخارجية ومعايير الصداقة والعداء لديه فيما أعتقد.
فالشخصية التركية حكمتها وشكلتها حقيقتان: الحقيقة الأولى هي العثمانية والحقيقة الثانية هي الإسلام، والرابط العضوي بينهما منذ نشأة الدولة العثمانية حتى قبل أن تتوسع وتصبح إمبراطورية. ولا شك في أن المنطقة التي نشأت فيها وطبيعة العصر ووجودها بجانب روسيا في منطقة تقع بين آسيا وأوروبا وتطل على المضايق المؤدية إلى البحر الأبيض والبحر الأسود، وعادات ذلك الزمان وهي الإغارات المتبادلة بالسيف وسيادة القوة والغلبة في ذلك الوقت، كل هذه العوامل مجتمعة بالإضافة إلى روح القتال عند الشعوب التركية ثم اعتصامها بالإسلام؛ صار عَلَم الإسلام هو عنوان القوة العثمانية. فكل الانتصارات التي حققها العثمانيون تمت تحت راية الإسلام، فأصبح الإسلام هو المحرك للدفاع والغزو، وهو أيضا الضابط للسلوك الحربي للعثمانيين تماما كما حكم الإسلام كافة الحروب التي دخل فيها المسلمون الأوائل، خاصة في الدولتين الأموية والعباسية.
وبالطبع، فإن الدولة العثمانية عندما تمددت في الدول العربية الإسلامية كانت تغزو وتحتل وتمارس سلوك المحتل والغازي، وليس ذلك عيبا في الدولة العثمانية كما لم يكن فضيلة في غيرها، كما زعم الإعلام المصري وهو يحاول أن ينبش في التاريخ العثماني حتى ينتقم من تركيا الحديثة في ضوء الخلافات بين النظم في مصر وتركيا لأسباب وقتيه؛ لكنها لا يجوز أن تكون مدخلا لتشويه التاريخ العثماني الذي كتب عنه الأوروبيون وغير المسلمين بروح عدائية غالبا.
كما أن التناول الإعلامي في مصر للغزو العثماني لمصر تجاهل الحقائق؛ وأولها أن مصر كانت تُحتل بشكل دائم منذ 320 قبل الميلاد وظلت كذلك لأكثر من ألفي عام، فكان الغازي الجديد يُخرج منها القديم ويحل محله، والشعب المصري يفاجأ بالغازي الجديد. ولم تسجل أي مشاركة مصرية في هذه الملحمة، وإن وجد في كتب التاريخ فهو زيف يخدم خطا سياسيا معينا ولا علاقة له بالواقع التاريخي.
فإذا كان الغازي العثماني قد شنق طومان باي المملوكي وعلقه على باب زويلة، أو أن محمد على رتب لمذبحة المماليك، فكل ذلك لا يهمني كمصري وإنما يهمني انتقام الغرباء من أي نوع من الأبطال المصريين، مثل عمر مكرم وقاتل السردار البريطاني وقاتل قائد حملة نابليون في مصر بعد رحيله عام 1801.
فالتاريخ العثماني مدعاة لفخر المسلمين في الكثير من المواضع، كما أنه يستنهض الروح القومية التركية في جميع العصور، وهذا هو السبب في شعبية أردوغان عندما يرفع شعار العثمانية الجديدة. ولم يقدح أحد في بوتين عندما رفع شعار استعادة المجد السوفييتي لروسيا بدون الرابطة الشيوعية، فتجاوز التيار القومي في قوميته لكنه يواجه آثار النوستالجيا التي تعاود الكثيرين من الروس. وهذا الموضوع يهم المراقبين المتابعين، لكنه لا يهمني كمصري بصرف النظر عن وضع العلاقات المصرية الروسية.
ويفخر الشعب التركي كله بعثمانيته ويتمنى أن يستعيد ما أمكن منها، ولكنه يصطدم بالجانب الآخر الذي رافق
العثمانيين وهو الإسلام. ونظرا للارتباط التاريخي بينهما، فقد اضطر كمال أتاتورك إلى استخلاص تركيا من إرث الإمبراطورية، فتنازل في اتفاقية سيفر ومن بعدها لوزان (بعد الحرب العالمية الأولى) عن ممتلكات هذه الإمبراطورية، فتقارب مع الغرب الذي كان يسعى إلى تصفية الإمبراطورية.
أما الشق الثاني وهو الإسلام الذى أفزع الغرب، حيث توغلت القوات العثمانية في أوروبا واحتلت البلقان طيلة أربعة قرون وتركت بصمات واضحة في هذه المنطقة، فقد اعتنق أتاتورك العلمانية، ولكنها كانت علمانية تهدف إلى اجتزاز الإسلام وهذا مستحيل، ولكنه عجز عن الفصل بين العثمانية والإسلام، إذ ظل الشعب التركي ينبض بحب الإسلام والانتماء إليه وهذا ما ساعد التيار الإسلامي في الظهور، فلما قضى أردوغان على الانقلابات العسكرية وأعاد بناء الدولة الديمقراطية، فإنه مدعوم من الشقين العثماني والإسلامي، وكلاهما يقف الغرب منهما موقف العداء.
والحق أن النسخة العلمانية التي أدخلها أتاتورك إلى تركيا تضطهد الدين وتتماهى مع الدكتاتورية العسكرية، ولذلك وجد العسكريون ضالتهم في محاربة الإسلام، فلما جاء أردوغان أخضع العسكريين إلى الدولة المدنية وحاكم كل من اشترك منهم ومن المدنيين في سلسلة الانقلابات العسكرية.
ويدرك أردوغان جيدا الارتباط بين العلمانية التي تعادى الإسلام وبين العثمانية ولذلك يحاول أن يجمع بين العلمانية التي رآها أتاتورك إنقاذا لتركيا من الماضي والمؤامرة، وبين الإسلام، وهي تشكيلة منطقية لو أحسن تطبيقها ويجمع عليها الشعب التركي، ويحصر المعارضة في هوامش الفراغ الديمقراطي أمام هجمة التيارات الإسلامية والعثمانية. ولكن الغرب يريد العلمانية التي تمحو الإسلام والعثمانية في شعب يحنّ لماضيه، كما يرتبط بالإسلام منذ جعله آل عثمان شعارا لقوتهم وشرعيتهم في الداخل وحروبهم في الخارج.
ولا شك في أن الارتباط بين العثمانية والإسلام فرض على أردوغان ألا يميز داخل التيارات الإسلامية وفي العالم الإسلامي؛ بين الإسلامي والمسلم، وهذا قاده إلى عدم الحذر من المنظمات الإرهابية ذات الطابع الإسلامي، فاتهم بالتعاون مع داعش، واستضاف كل التيارات بما فيها من مصر وسوريا مما أقلق علاقاته مع مصر وسوريا، خاصة أن هذه الجماعات في صراع على السلطة في البلدين. أما العثمانية فقد دفعت أردوغان إلى الدفاع عن ذوي الأصول التركية في الصين وغيرها، وما دام هؤلاء ينحدرون من أصول تركية ومسلمين، فإن أردوغان احتك بالصين بسبب أقلية الإيجور.
لا شك في أن التلازم بين الإسلام والعثمانية يستهدف الملايين في المنطقة، ولكن تعقيدات الشعار وهذا التلازم يلقى تحديات كبيرة على تركيا.
وأعترف بأنني لا أملك حلولا لهذه الإشكالية، فقد يقول قائل: وما العيب في أن يجاهر أردوغان باعتزازه بأجداده في أمجادهم الإسلامية والعثمانية؟ لكن لست متأكدا من أنها إشكالية عند أردوغان. وقد طرحت ما أراه، فإن كان مطابقا للواقع فهذا من فضل ربي، وإذا كان وهْما وخيالا فهذا درس لي لمزيد من البحث.