أراد
ترامب أن يضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، فأصاب عبد الفتاح
السيسي!
ففي تغريدة واحدة انتقد الكونجرس، لأنه أبقى على
المساعدات العسكرية لمصر
لتشتري السلاح من روسيا، فأصاب هدفين إصابات طفيفة؛ الكونجرس وروسيا، بينما الإصابة الأكثر ايلاماً كانت من نصيب دكتاتوره المفضل.
فمنذ إعلان فوز بايدن وسقوطه وترامب يسعى لأن يضع له العربة أمام الحصان، ولأنه متهم بالتواطؤ مع الروس، ولا يستطيع أن يعلن العداء الكبير لهم الآن، فهم متهمون بالتدخل في الانتخابات التي جاءت به رئيساً، فاستنكاره لشراء
مصر للسلاح من روسيا يأتي من باب ذر الرماد في العيون، لأن القاهرة لا تشتري فقط سلاحا من روسيا، والتي ليست هي الأولى في هذا العام في هذه القائمة، ولكن إيطاليا، وتأتي موسكو في المرتبة الثانية، وباريس في المرتبة الثالثة. وبحسب تقرير لمنظمة أمنستي فإن قائمة الدول المصدرة للسلاح لمصر تتجاوز اثنتي عشرة دولة.
أما أنها إصابة طفيفة للكونجرس، فلأن المساعدات العسكرية الأمريكية لم تكن نتاج قرار صدر بعد سقوطه، ولكنها منذ توقيع اتفاقية السلام بين السادات والإسرائيليين برعاية أمريكية، فكانت بمثابة "عربون محبة". ثم إن السيسي لم يذهب اليوم فقط إلى روسيا لشراء السلاح، فهو فعل هذا خلال حكم ترامب، الذي لم ير في ذلك ما يستحق اللوم أو العتاب، واستمر في علاقته بدكتاتوره المفضل، يسبغ عليه الحماية، ويشمله بالرعاية، ويتجاوز عن جرائمه في ملف حقوق الإنسان، فما الذي تغير؟!
السيسي لم يذهب اليوم فقط إلى روسيا لشراء السلاح، فهو فعل هذا خلال حكم ترامب، الذي لم ير في ذلك ما يستحق اللوم أو العتاب، واستمر في علاقته بدكتاتوره المفضل، يسبغ عليه الحماية، ويشمله بالرعاية، ويتجاوز عن جرائمه في ملف حقوق الإنسان، فما الذي تغير؟!
لقد لفت الصحفي المرموق محمد السطوحي انتباهنا إلى خطأ في الترجمة الرائجة لما كتبه ترامب، كانت سبباً في دهشة المهتمين بهذا الملف. دعك من "الأبواق الإعلامية" للجنرال، فهؤلاء يتصرفون كشبيحة، وكأنهم في خناقة شوارع، فهم لديهم استعداد دائم لمواجهة أمريكا وما بعد أمريكا، وهم ينيبون من مواقعهم في الأستوديوهات عن وزارة الخارجية، فيعلنون استعداد مصر الكامل التخلي عن كل المساعدات الأمريكية، وهو أمر وثيق الصلة بسلوك نمط من المتسولين الذين يمارسون مهنتهم تحت لافتة "حسنة وأنا سيدك"!
الترجمة الرائجة أوحت بأن القاهرة تستخدم المعونة العسكرية الأمريكية وقدرها 1.3 مليار دولار في شراء أسلحة من روسيا، فلما كانت المعونة ليست مالية، فقد أثار هذا دهشة المهتمين، لكن "لفت الانتباه" إلى الترجمة يؤكد أن ترامب لم يقع في الخطأ، فهو لم يقل إن المصريين يشترون بالمال الأمريكي أسلحة من موسكو، ولكنه قال ويشترون دون تحديد لمصدر المال الذي تشتري به مصر السلاح من روسيا.
المساعدات الأمريكية هي أسلحة ومعدات، ولعل هذا من شأنه أن يعزز من مبدأ القدرة على الاستغناء عنها، فماذا لو تم قطع هذه المعونة تماماً؟!
لا يختلف أحد على أن هذه "المساعدات العسكرية" ساعدت في رفع كفاءة الجيش المصري، لكن في النهاية، فإن الحاكم العسكري المصري لن يحارب وليس في نيته خوض أي حرب، والمواجهات التي تحدث مع المسلحين في سيناء لن تتضرر إذا لم تستخدم فيها أحدث الأسلحة، لأنها في مواجهة من يستخدمون الأسلحة البدائية. والجيش الإسرائيلي هو الوحيد الذي كان يُعمل حساب المواجهة معه، وهي جبهة حرب أغلقت بسبب معاهدة السلام، ثم إن السيسي لن يفتح باب الحرب مع الاسرائيليين أبداً، ولن يحارب خارج حدود مصر البتة، فلم يشارك في الحرب في اليمن، وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي كانت طبول الحرب تقرع بعنف في القاهرة، على أساس أن الجيش المصري سيخوض غمار الحرب في ليبيا، وحصل السيسي على موافقة البرلمان على ذلك، وقد كتبت متحدياً أن يفعل، وها هي سنة كاملة تمر، وقد تراجع تماماً خيار الحرب في ليبيا!
القيمة الفعلية للمساعدات العسكرية الأمريكية، أن وجودها يضمن تدفق المساعدات المالية من ناحية، والاعتراف بشرعية الحكومة القائمة من ناحية أخرى، وإذا حجبت الحكومة الأمريكية المعونة العسكرية، فإن الأمر يعني سحب الاعتراف بعبد الفتاح السيسي
القيمة الفعلية للمساعدات العسكرية الأمريكية، أن وجودها يضمن تدفق المساعدات المالية من ناحية، والاعتراف بشرعية الحكومة القائمة من ناحية أخرى، وإذا حجبت الحكومة الأمريكية المعونة العسكرية، فإن الأمر يعني سحب الاعتراف بعبد الفتاح السيسي، حينئذ سيسقط في ست ساعات، بصوت الرئيس السادات، لأنه لا يعتمد في شرعيته على الداخل، أو على توافق شعبي مصري ولو في حدوده الدنيا، فهو في موقعه في السلطة، لأنه في معية البيت والغرب بشكل عام، وإذا سُحب الاعتراف منه، فسوف ينفض السامر، وستبدأ أزمته من دائرة حكمه الضيقة!
إن ترامب يعلم
توجه بايدن تجاه دكتاتوره المفضل في القاهرة، فأراد بهذا الموقف من المعونة العسكرية أن يقطع الطريق عليه، فلا يكون أي دور يقوم به ضده له قيمة كبيرة، وكذلك فعل في كل الملفات الأخرى ومن الصين، إلى تركيا، وبدرجة أقل روسيا، وفي حدود مساحة المناورة أمامه وهي ضيّقة؛ تجعل من هذه المناورات ليست أكثر من وسيلة لتحدي الملل!
وأعتقد أن بايدن كسياسي متمرس، يعرف قيمة الإنجازات السريعة في سنة الحكم الأولى، سيجد في المجال المصري فرصة ليؤكد انحيازه لحقوق الإنسان، وهو هنا يعلم تماما أن أي إنجاز في هذا الملف سيحسب له، وسيمثل إضافة من حيث الشكل للصورة الذهنية للولايات المتحدة الأمريكية التي اهتزت تماما في عهد ترامب، ثم إنه هنا سيكون في مواجهة الدكتاتور المفضل لغريمه، الذي ساعده بالدعم في حملته الانتخابية السابقة، وقد تكون بداية للتحقيق الجاد في التدفقات المالية التي وصلت من القاهرة لهذا الغرض، فضلا عن أنه لن يخسر شيئاً.
إن علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالخارج، هي علاقة انتهازية لا تقوم على المبادئ ولكنها لا تنظر إلا للمصالح، لكن علينا أن نطرح سؤالاً على درجة كبيرة من الأهمية: وماهي المصالح التي لا يزال يمثلها السيسي، وقد فقدت مصر في عهده دورها التقليدي، ليس في زعامة المنطقة، فهذا دور تخلى عنه مبارك طواعية للحكم السعودي، ولكن في ما يختص بملف الصراع العربي الإسرائيلي؟ وفي كل الاتفاقيات العربية السابقة مع الكيان الصهيوني، كان مبارك حاضراً جنباً إلى جنب مع الرئيس الأمريكي، الآن تخلقت زعامة جديدة لهذا الملف في دولة الإمارات العربية المتحدة، هو محمد بن زايد، ولم يعد من دور للقاهرة إلا الدور الذي يزاحم به السيسي فعقب كل اتفاقية تطبيع، يكتب منشوراً يؤكد فيه تثمينه لهذه الخطوة، على قاعدة "أنا أثمن إذاً أنا موجود"!
إنها أزمة اللعب في الوقت الضائع.
twitter.com/selimazouz1