لم يشهد الأردن منذ استلام الملك
عبد الله الثاني الحكم؛
أزمة بحجم ما يشهده هذه الأيام بعد اتهام باسم عوض الله وشخصيات أخرى بالتنسيق مع الأمير حمزة
لتغيير الحكم. على الرغم من ذلك، يمكن أن تشكل الأزمة الخطيرة فرصة سانحة للبلاد.
جاءت الأحداث بعد عامين صاخبين عاشهما الأردن داخليا وخارجيا، وشهد خلالهما تحديات كبيرة اقتصادية وسياسية، والأهم أنه تعرض خلاله لضغوط غير مسبوقة على صعيد مكانته الاستراتيجية في المنطقة.
تحديات داخلية وخارجية
جاءت الأحداث بعد عامين صاخبين عاشهما الأردن داخليا وخارجيا، وشهد خلالهما تحديات كبيرة اقتصادية وسياسية، والأهم أنه تعرض خلاله لضغوط غير مسبوقة على صعيد مكانته الاستراتيجية في المنطقة
عاش الأردن عام 2019 على وقع إضراب المعلمين، وهو أطول إضراب هذا الحجم في تاريخ الأردن، استمر من 5 آب/ أغسطس حتى 6 أيلول/ سبتمبر، وانتهى باتفاق الحكومة ونقابة المعلمين على إنهاء الإضراب وتحقيق مطالب المعلمين، وكان يمكن أن يكون هذا الاتفاق انتصارا للأردن ككل كما قال وزير الدولة للشؤون القانونية الأردني آنذاك، ولكن الحكومة عادت لملاحقة النقابة في السنة التالية للإضراب وحاكمت أعضاء مجلسها، وحلت المجلس، وصنعت احتقانا كبيرا في الشارع.
أما العام الماضي فقد بدأ طبيعيا برغم التراجع الاقتصادي وحالة الفقر والبطالة، ولكن ظهور فيروس
كورونا مثل عاملا مهما في صناعة المزاج الشعبي الأردني، ونظرته للدولة في اتجاهين متناقضين تماما!
استفادت الدولة في بداية أزمة كورونا من الأداء الصارم الذي أشعر غالبية الناس بنجاحها في تقليل انتشار الفيروس، ووقفت الأحزاب الأردنية بما فيها المعارضة مع قرارات الدولة، رغم أنها كانت قرارات غير ديمقراطية ورأى فيها البعض استغلالا لأزمة كورونا بهدف زيادة القبضة الأمنية من خلال استخدام
قوانين الدفاع العرفية. استمر المزاج الشعبي مؤيدا للحكومة، خصوصا مع الدعاية الإعلامية الكبيرة لأدائها ومع نقص أعداد المصابين بالفيروس مقارنة بالدول الأخرى.
لم تستمر هذه الحالة الوردية في العلاقة بين الشعب وأجهزة الدولة عندما بدأت أعداد المصابين والمتوفيين بسبب كورونا بالتصاعد، وبعد ظهور ضعف القطاع الطبي الحكومي رغم سمعة الطب الجيدة في الأردن، والأهم من ذلك بعد أن كشفت الأزمة عمق البوس الاقتصادي وهشاشة الأوضاع المعيشية، حيث لم تستطع الدولة ولم تمتلك الموارد لتعويض المتضررين من إجراءات الإغلاق والحظر، وعانت قطاعات كبيرة من الشعب بسبب هذه الإجراءات، سواء من الموظفين أو عمال المياومة أو أصحاب الأعمال والمشاريع الصغيرة.
لم تستمر هذه الحالة الوردية في العلاقة بين الشعب وأجهزة الدولة عندما بدأت أعداد المصابين والمتوفيين بسبب كورونا بالتصاعد، وبعد ظهور ضعف القطاع الطبي الحكومي رغم سمعة الطب الجيدة في الأردن، والأهم من ذلك بعد أن كشفت الأزمة عمق البوس الاقتصادي وهشاشة الأوضاع المعيشية
في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ومع تشديد القبضة الحكومية ضد نقابة المعلمين وكل أوجه المعارضة، كشفت
الانتخابات البرلمانية التي عقدت في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عن حجم غياب الثقة بين الشعب والدولة. كانت نسبة المشاركة التي سجلت 29.6 في المئة كاشفة لهذا الغياب، ورافق ذلك بعض الإجراءات التي أدت لاتهام الدولة بممارسة التأثير بطرق شتى على نتيجة الانتخابات، لدرجة أن مقالا في صحيفة واشنطن بوست وصفها بأنها الانتخابات الأسوأ منذ سنوات.
ولكن أهم ما كشفت عنه الانتخابات فهو ليس فقط فقدان الثقة بالدولة، بل فقدان الثقة بالسياسة عموما، ولعل هذا ما يفسر التصويت العقابي ضد مرشحي جبهة العمل الإسلامي، التي اتهمت من قبل بعض خصومها ومؤيديها على حد سواء بالمشاركة في عملية ديمقراطية ديكورية.
على الصعيد الخارجي، عانى الأردن خلال السنوات الثلاثة الماضية
عدة تحديات. تراجع دور الأردن الاستراتيجي كبوابة للقضية الفلسطينية مع مصر بعد توجه دول عربية مهمة للتطبيع مع الاحتلال سرا وعلنا وعلى رأسهما السعودية والإمارات، وواجهت عمان ضغوطا كبيرة فيما يتعلق بالموقف من القدس لدرجة جعلت الملك عبد الله الثاني يتحدث عن الأمر بشكل صريح، وإن كان دبلوماسيا، في آذار/ مارس 2019، ليكرره في مناسبات متعددة.
واجه الأردن ضغوطا كبيرة لعدم التحدث علنا عن رفض صفقة القرن ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ولكنه لم يمتلك خيارا سوى إعلان المعارضة للخطتين لأنهما تتناقضان مباشرة مع مصالحه الوطنية، وهو الأمر الذي تسبب بضغوط من إدارة ترامب ومن دول يفترض أنها حليفة له في المنطقة
في نفس السياق، واجه الأردن ضغوطا كبيرة لعدم التحدث علنا عن رفض صفقة القرن ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ولكنه لم يمتلك خيارا سوى إعلان المعارضة للخطتين لأنهما تتناقضان مباشرة مع مصالحه الوطنية، وهو الأمر الذي تسبب بضغوط من إدارة ترامب ومن دول يفترض أنها حليفة له في المنطقة، لدرجة أن السعودية حاولت الضغط على الملك عبد الله الثاني حتى لا يشارك بالقمة التي دعا لها الرئيس التركي أردوغان للرد على إعلان القدس عاصمة لدولة الاحتلال في العام 2017.
ساهمت الخلافات بين إدارة ترامب والسعودية والإمارات من جهة وبين الأردن من جهة أخرى حول مشاريع إدارة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية؛ بوضع الأردن في علاقة غير مريحة مع حلفائه التقليديين، وهو ما أدى إلى عرقلة المساعدات الخليجية وخروجها من بنود الموازنة الأردنية منذ العام 2018.
على الرغم من أهمية البعد الاقتصادي في الضغوط الخارجية على الأردن، إلا أن الأهم من ذلك هو شعور الأردن أن بعض الدول العربية الحليفة له تحاول الضغط عليه بالتنسيق مع إدارة ترامب، وإضعاف دوره التقليدي في المنطقة كما عبر عن ذلك في إشارة ذات دلالة بيان وزير الخارجية الأردني الأول عن أزمة الأمير حمزة.
الفرصة السانحة من الأزمة
إذا كانت الأزمة قد كشفت أشياء كثيرة عن السياسة في الأردن، وعن العلاقات الخارجية لعمان وطبيعة تغيراتها في الأعوام القليلة الماضية، فإن أهم ما كشفته هو غياب ثقة الشعب بالدولة، ولهذا فقد وجدت مؤسسات الحكومة ووزراؤها وإعلامها صعوبة في إقناع الناس برواية الدولة، واستطاع تسريب واحد بصوت الأمير حمزة بنشر روايته وتفوقها على
رواية الحكومة كما ظهر من متابعة مواقع التواصل الاجتماعي. لا يتعلق هذا التوجه لعدم الثقة برواية الحكومة بالأمير حمزة نفسه وموقف الناس منه، بقدر ما يعبر عن ضعف ثقة الناس بالحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى.
تراجعت ثقة الناس في الأردن بالدولة وبالسياسة بشكل عام كما بينا سابقا، استنادا إلى الانتخابات البرلمانية التي أجريت الام الماضي، بسبب غياب مؤسسات وسيطة بين الناس وبين الدولة، وبسبب تركيز السلطة وعدم تمثيل الشعب تمثيلا حقيقيا
تراجعت ثقة الناس في الأردن بالدولة وبالسياسة بشكل عام كما بينا سابقا، استنادا إلى الانتخابات البرلمانية التي أجريت الام الماضي، بسبب غياب مؤسسات وسيطة بين الناس وبين الدولة، وبسبب تركيز السلطة وعدم تمثيل الشعب تمثيلا حقيقيا في برلمان يعبر عنهم ويمثل مطالبهم وتطلعاتهم. عندما يصبح البرلمان ذراعا حكوميا يفقد الناس الثقة به، ويفقدون الشغف بالمشاركة السياسية، وتصبح الدولة هي المسؤول الوحيد أمامهم عن كل
الأزمات، بينما يساهم وجود برلمان قوي وحكومة برلمانية بتوزيع السلطة من جهة وتوزيع المسؤوليات من جهة أخرى، ويعطي المواطن الفرصة للتعبير عن غضبه من خلال الانتخابات بمعاقبة من فشلوا بالتعبير عن قضاياها، بدلا من اللجوء دائما للشارع.
الأزمة في الأردن مثلت تهديدا غير مسبوق في العقدين السابقين، ولكنها تمثل فرصة سانحة لإحياء السياسة في البلاد، ولرفع ثقة الناس بها وبالدولة، ولتوزيع السلطة والمسؤوليات، ولصياغة قانون انتخابي يعبر عن الشعب تعبيرا صادقا، ويتحمل مسؤولية تمثيله، ويشكل مؤسسة وسيطة بين الدولة والشعب، بدلا من إبقاء المواجهة مباشرة بين الدولة والشعب.
twitter.com/ferasabuhelal