قضايا وآراء

الرئيس التونسي ومعارضاته

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
لفهم واقع المعارضة التونسية خلال "حالة الاستثناء" التي تعيشها البلاد منذ 25 تموز/ يوليو الماضي، يمكننا أن ننطلق من التحركات الاحتجاجية لتلك المعارضة يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر، أي يوم الاحتفال بعيد الثورة الذي أقره الرئيس قيس سعيد بمرسوم بدلا من يوم 14 كانون الثاني/ يناير. فمثلما أظهر "احتفال" مناصري الرئيس حجم الشعبية المزعومة لهذا الأخير، عكست الاحتجاجات التمثيلية شعبية مكوّنات المعارضة، ولكنها عكست أيضا تشتتها، وبالتالي عجزها عن تحويل ذلك المعطى الكمي إلى عامل مؤثر في مواجهة السلطة القائمة.

بحديثنا عن سيطرة المعارضة على الشارع ومحدودية حضور أنصار الرئيس رغم أهمية الحدث ورمزيته، فإننا لا نعتبر ذلك دليلا "علميا" على العمق الشعبي للطرفين. فعلى خلاف ما يزعم أنصار الإجراءات الرئاسية المرتبطة بالتحركات الاحتجاجية يوم 25 تموز/ يوليو، فإن الشارع ما هو إلا "قرينة" على واقع سياقي ومؤقت، وهو واقع لا يمكنه البتة أن يؤسس لشرعية بديلة للشرعية المستمدة من صناديق الاقتراع، ولا يمكنه أن يكون أيضا نقطة ارتكاز مرجعية لا تقبل النقض أو على التشكيك والمنازعة.

وإذا ما سلّمنا لأنصار الرئيس - جدلا أو اعتباطا - بأنه قد اكتسب شرعيته من تحركات يوم 25 تموز/ يوليو، فإن عليهم أن يسلموا لغيرهم بأن الشارع نفسه قد سحب تلك الشرعية منه، أو لنقل - بمفردات المشروع الرئاسي - إن الشارع قد سحب "الوكالة" أو التفويض من الرئيس وأسندها لمعارضته. ولكنّ الحديث عن المعارضة بصيغة المفرد يجانب الصواب، فقد أظهرت هندسة الشارع الاحتجاجي أننا أمام "معارضات" متعددة يعكس تفرقها المكاني - والمتاريس التي أقامتها الأجهزة الأمنية بينها - تشتتا أعمق في مستوى مواقفها من الإجراءات الرئاسية وفي مستوى علاقاتها البينية.
الحديث عن المعارضة بصيغة المفرد يجانب الصواب، فقد أظهرت هندسة الشارع الاحتجاجي أننا أمام "معارضات" متعددة يعكس تفرقها المكاني - والمتاريس التي أقامتها الأجهزة الأمنية بينها - تشتتا أعمق في مستوى مواقفها من الإجراءات الرئاسية وفي مستوى علاقاتها البينية

رغم استهداف السلطة لكل معارضيها بشتى أنواع التضييقات (في الشارع) وبترسانة هائلة من مفردات الشيطنة والتخوين (في مستوى الخطاب)، ورغم عدم استثناء الرئيس لأي طرف من "صواريخه" - سواء أكان الطرف المستهدف ممثلا للسلطة القضائية أم ممثلا للشركاء الاجتماعيين أو للمجتمع المدني - فإن ذلك لم يكن كافيا لتشكل جبهة معارضة جامعة. إننا أمام "معارضات" لم ير بعضها ضرورة الخروج للشارع (مثل الاتحاد العام التونسي للشغل أو هياكل القضاء والإعلام وبعض منظمات المجتمع المدني) واكتفت بالتصعيد الخطابي، بينما ملأ غيرهم الشارع بأوزان مختلفة (خاصة "مواطنون ضد الانقلاب" وترويكا اليسار الاجتماعي المتكونة من التيار الديمقراطي والتكتل والحزب الجمهوري).

وبصرف النظر عن الاختلاف الظاهر بين أحجام مكوّنات المعارضات "الشارعية" للرئيس، وبصرف النظر عن العوامل التي تحول دون تقاربها إلى حد هذه الساعة، فإن حرصها على تأكيد التمايز فيما بينها قد بعث برسالة لأنصارها قبل غيرهم: إن معارضتنا للرئيس لا تعني التماهي مع باقي الطيف المعارض له. وإذا ما كانت ترويكا اليسار الاجتماعي - أو معارضة 22 أيلول/ سبتمبر - تعتبر مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" كابح صدمات (باراشوك باللهجة التونسية) في خدمة النهضة وحلفائها، فإن معارضة 25 تموز/ يوليو تعتبر أغلب من أيد "الإجراءات" أو حرّض عليها ثم اتخذ منها مسافة نقدية؛ مجرد "عادم" (شكمون باللهجة التونسية) في خدمة الرئيس.
الحديث عن "خيار ثالث" سيكون حديثا مجازيا أو سيكون في أحسن الأحوال إحالة على مقاربات غير نضيجة إلى حد هذه اللحظة، أي مقاربات لا يمكن الجزم بتمايزها جذريا عن الرئيس أو عن منظومة ما قبل الإجراءات على حد سواء

إننا أمام "وصمين" أو استعارتين لا تحضران في المواقف الرسمية لأهم ممثّلَين لمعارضة الإجراءات الرئاسية، ولكنهما تحضران بقوة عند قواعدهما، بل تحضران بصيغ مخاتلة و"ديبلوماسية" في خطابات القيادات. فإذا كانت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" قد عبّرت عن معارضتها المبدئية للإجراءات واعتبرتها انقلابا على الدستور منذ اليوم الأول، فإن أغلب أطياف المعارضة الأخرى قد رحبت بتلك الإجراءات واعتبرتها استجابة "دستورية" لمطلب شعبي حقيقي، وهو خلاف جوهري سيكون ذا أثر كبير في هندسة المشهد المعارض للرئيس وفي تحديد نوعية مطالبه. ورغم أن المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر قد دفع بالكثير من أنصار الرئيس إلى اتخاذ مسافة نقدية منه، فإن ذلك لم يغيّر موقفها من منظومة ما قبل 25 تموز/ يوليو، وبقيت مصرّة على التمايز عن "مواطنون ضد الانقلاب" لأنها حسب رأيها مجرد واجهة لتلك المنظومة ونواتها النهضوية. أما "مواطنون ضد الانقلاب" وقواعدهم فقد اعتبروا أن التحاق غيرهم بصفوف المعارضة هو "خيار ثان" داخل الانقلاب، وليس خيارا ثالثا كما يدعي الكثيرون.

مهما قلّبنا النظر في مكونات المعارضة التونسية، فإن الحديث عن "خيار ثالث" سيكون حديثا مجازيا أو سيكون في أحسن الأحوال إحالة على مقاربات غير نضيجة إلى حد هذه اللحظة، أي مقاربات لا يمكن الجزم بتمايزها جذريا عن الرئيس أو عن منظومة ما قبل الإجراءات على حد سواء. فحراك "مواطنون ضد الانقلاب" يظل خيارا ثانيا في مطلب العودة للشرعية، مع ما يعنيه ذلك من إحياء لسياسات التوافق بين النهضة وبعض مكونات المنظومة القديمة. أما ترويكا اليسار الاجتماعي (ومعها المركزية النقابية وبعض المنظمات الوطنية الأخرى) فإنها تظل هي الأخرى خيارا ثانيا في مطلب الانقلاب على منظومة ما قبل 25 تموز/ يوليو، مع ما يعنيه ذلك من هيمنة المنطق الاستئصالي (سواء أكان صلبا أم ليّنا) واختزال للصراع ضد المنظومة الفاسدة إلى صراع ضد "الإسلام السياسي"، أي ضد حركة النهضة حصريا.
المخرج من الأزمة السياسية الحالية - مهما كان شكل الخارطة السياسية الذي سيفرزها - لن يكون واقعيا إلا مدخلا لأزمات جديدة ما دامت "الكتلة التاريخية" أو "الخيار الثالث" مجرد مطلب طوباوي لا وزن له ولا تأثير على مجريات الأحداث،

إن "مأزق" معارضات الرئيس - سواء أكانت معارضة مبدئية للانقلاب أم معارضة لطريقة إدارته ولعدم المشاركة في تحديد مخرجاته - هي أنها جميعا تحمل تناقضات داخلية تمنع تحولها إلى "خيار ثالث" حقيقي. فرغم انتقاد مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" لمنظومة ما قبل 25 تموز/ يوليو، فإنها تعاني من عطوبة جوهرية هي استحالة تحركها من خارج "منطق التوافق" وبعيدا عن مساندة رموزه، رغم سوء سمعتهم بين عموم المواطنين. ولذلك فإن هذه المبادرة لم تستطع إلى حد هذه اللحظة أن تقترب من معنى "الكتلة التاريخية" وأن تتحقق بشروطها، وما زالت مجرد "كتلة توافقية"، مع ما يثيره ذلك من مخاوف مشروعة من إعادة إنتاج المنظومة التوافقية وسياساتها اللاّ وطنية المعروفة.

أما أولئك الذين يعارضون مسار الإجراءات دون الطعن في شرعية مطالبها - مع اتهام الرئيس بالانقلاب عليها - فإنهم لا يمكن أن يكونوا خيارا ثالثا بحكم اشتراكهم مع الرئيس في اختزال "منظومة الفساد" في حركة النهضة وحلفائها، وكذلك بحكم عجزهم - أو خوفهم - من إظهار أي موقف نقدي من باقي مكونات المنظومة ومن شركائها الاجتماعيين أو حلفائها الإقليميين في محور الثورات المضادة. وهو ما يعني أن المخرج من الأزمة السياسية الحالية - مهما كان شكل الخارطة السياسية الذي سيفرزها - لن يكون واقعيا إلا مدخلا لأزمات جديدة ما دامت "الكتلة التاريخية" أو "الخيار الثالث" مجرد مطلب طوباوي لا وزن له ولا تأثير على مجريات الأحداث، ولا يُتوقع أن يكون له دور وازن في إعادة هندسة الحقل السياسي، على الأقل في المستوى المنظور.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (1)
إيمان
السبت، 25-12-2021 08:45 ص
مقال رائع...يبدو أن سياسة الكيل المكيالين وإزدواجية المعايير ستبقى دائما حجر عثرة في بناء الكتلة التاريخية.