نشأ العديد من فلسطينيي الشتات مثلي على حب
فلسطين والانتماء لفلسطين مما زرعه أهلنا بنا، وبالذات ما أذكره وعمري خمس سنوات في حرب حزيران/ يونيو عام ١٩٦٧. لا أنسى دموع والدتي منيرة وجوابها لي عندما سألتها عن سبب بكائها فردت "اليهود احتلوا أريحا اللي فيها ستك". وأذكرها بعد ذلك مع زميلاتها يجمعن تبرعات لفلسلطين، وقامت والدتي باستعمال حرفة الخياطة التي تتقنها لتخييط العديد من أعلام فلسطين، ليزينوا بها صالة البهو في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية لإقامة فعاليات داعمة لفلسطين، وبالذات
منظمة التحرير الفلسطينية. وأتذكر أن والدي والفلسطينيين الآخرين كانوا يقتطعون 5 في المائة من مرتبه لدعم "م. ت. ف"، بدون سؤال. لم تكن هناك سلطة أو دولة فلسطينية، ولكن تولد بأطفال فلسطينيي الشتات حب فلسطين وحب "م. ت. ف".
ولا يكتمل حديث عن تلك الحقبة بدون اقتران فلسطين و"م. ت. ف" بالرئيس الراحل ياسر عرفات وكوفيته. لمحته مرة في الرياض في إحدى زياراته وعرفته، وأذكر أنه لوح بيده محييا لي ولصديقي الذي كان معي وقتها.
ومع تسارع الأيام أتذكر أيضا المصافحة الشهيرة بين عرفات ورابين في حديقة البيت الأبيض عند توقيع معاهدات أوسلو، وتفاؤلي عندها بقرب إحلال السلام في فلسطين. كم كان تفاؤلي في غير محله، فبدل أن يحل السلام، أدت أوسلو إلى الكارثة الحالية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية وفي المخيمات والشتات.
مع أن دول المجتمع الغربي التي تتشدق بالديمقراطية وأهمية حقوق الإنسان لم تكترث بها لدعمها الأعمى لإسرائيل، إلا أن تراكم الأدلة مهم ويقلق إسرائيل بسبب خوفها من موضوع نزع الشرعية
من منافع كورونا اللعين كان اكتشاف الزوم وترتيب عشرات اللقاءات التي جمعت الفلسطينيين في مختلف مناطق تواجدهم. ومع أن العديد منها روجت نفسها للإجابة عن "سؤال ما العمل؟"، إلا انها، وأنا هنا أعمم، لم تنجح بالإجابة بل تحولت للإعادة واجترار تحليلات للوضع مع أن الأغلبية يعرفون الوضع.
يمكن تلخيص الوضع بأن الشعب الفلسطيني يواجه احتلالا كولونياليا اقتلاعيا ونظام فصل عنصري. أكدت مؤسسات بتسيليم والعفو الدولية وهيومن رايتس وتش في تقاريرها الحديثة أن إسرائيل تنطبق عليها جريمة الأبارتهايد. ومع أن دول المجتمع الغربي التي تتشدق بالديمقراطية وأهمية حقوق الإنسان لم تكترث بها لدعمها الأعمى لإسرائيل، إلا أن تراكم الأدلة مهم ويقلق إسرائيل بسبب خوفها من موضوع نزع الشرعية.
الثلة الحاكمة الفاقدة للشرعية تتحكم بـ"م. ت. ف" والسلطة الوطنية الفلسطينية ودولة فلسطين وتقود الفلسطينيين إلى المزيد من المآسي والخذلان، وأنها في الحقيقة تستخف به وتعول على أنه لن يثور على هذه الثلة التي يقودها الدكتور محمد عباس ومجموعة منتفعة حوله
ولكن من المقلق أن الشعب الفلسطيني بالإضافة لبطش إسرائيل يعاني من الهياكل الفلسطينية التي من المفروض أن تعمل بمصداقية لتحقيق حقوقه، تدير أموره بطريقة تليق بشعب مناضل ومضحي وتناضل لتحقيق حقوقه. ولكنه يجد أن المؤسسات الثلاث المناط بها ذلك تخذله بشكل يومي. وأن الثلة الحاكمة الفاقدة للشرعية تتحكم بـ"م. ت. ف" والسلطة الوطنية الفلسطينية ودولة فلسطين وتقود الفلسطينيين إلى المزيد من المآسي والخذلان، وأنها في الحقيقة تستخف به وتعول على أنه لن يثور على هذه الثلة التي يقودها الدكتور محمد عباس ومجموعة منتفعة حوله. فهم يعولون كما تعول إسرائيل أنهم لو قاموا بأي أمر مناف للقانون والدستور والعرف، فلن يثور الشعب بل ستكون هناك حالة غضب كالتي واكبت قتل أجهزة السلطة للمرحوم نزار بنات ولكنها بسبب بطش أجهزتها الأمنية ستكون سحابة و"تعدّي".
كان آخر الأحداث التي أثارت الشارع الفلسطيني اجتماع المجلس المركزي لـ"م. ت. ف" بداية شباط/ فبراير لاتخاذ قرارات ليس مخولا باتخاذها، ومن ضمنها تعيين رئيس للمجلس الوطني وذلك كاختيار الطفل زوجا للأم، واختيار أعضاء للجنة التنفيذية لـ"م. ت. ف" وكأن الابن يعين أحفادا لوالته. ومع اعتقاد القيادة أنها تستطيع تمرير ذلك على الشعب استخفافا به، إلا أن الشعب من الوعي بمكان - وليس فقط النخب - ليدرك أن الموضوع كان البدء للتحضير لخلافة السلطان يوما ما بعضو اللجنة التنفيذية الجديد حسين الشيخ الذي يحظى برضى الأمريكان والإسرائيليين. ومع أن الشعب العظيم سيرفض فرضه عليه، إلا أن القيادة تعتقد أن الشعب ليس له خيار إلا أن يقبل بذلك، فماذا سيفعل ليعترض؟
لقد بدأ حراك يتكون لإعاقة لهذا المشروع البائس للقيادة الحالية التي تستعمل المؤسسات الفلسطينية العريقة والمهمشة لإضفاء بعض الشرعية على قرارات مريبة
لقد بدأ حراك يتكون لإعاقة لهذا المشروع البائس للقيادة الحالية التي تستعمل المؤسسات الفلسطينية العريقة والمهمشة لإضفاء بعض الشرعية على قرارات مريبة. الشراكة التي جمعت الحملة الوطنية لإعادة بناء "م. ت. ف" (وأنا عضو مؤسس لها) والتحالف الشعبي للتغيير؛ شراكة واعدة جمعت فلسطينيي الداخل والخارج للعمل على إعادة البناء من خلال انتخابات لمجلس وطني يمثل ١٤ مليون فلسطيني من أمريكا الشمالية والجنوبية مروا بأوروبا وصولا إلى أستراليا. يفرز المجلس الوطني المنتخب قيادة جديدة ويعيد بناء المنظمة لقيادة ما هو في اسمها (التحرير)؛ تكون مناسبة لتحديات القرن الـ٢١. ويمكن التوقيع على عريضة أطلقتها الشراكة تؤكد على ما توافقت عليه هنا.
ومع إصدار الرئيس قرار قانون يعتبر المنظمة بكل دوائرها دائرة في دولة فلسطين، فترفض الشراكة هذا القرار وتؤكد على أن المنظمة هي رأس الهرم والسلطة والدولة من بعض مخرجاتها. فتجب العودة للأساس، ويتم ذلك بانضمام مجموعات وجاليات وحراكات لهذه الشراكة. وكلما نمت هذه الشراكة وزاد وزنها، كلما اقترب الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده من الضغط لإقالة أو استقالة القيادة الحالية الفاقدة للشرعية وإعادة إحياء "م. ت. ف" لقيادة المرحلة القادمة.