لأكثر من أسبوع، بقيت عاجزا عن كتابة جملة تتعلق
بالزلزال الذي ضرب جنوب
تركيا وشمال
سوريا، ذلك أن الحدث كان أكبر من اللغة وإدراك
الكلمات، وحدها الصدمة من حضرت في اللحظات الأولى للزلزال، فشُلّت الحواس وتجمد
المداد أمام آلاف الأرواح الصاعدة إلى بارئها.
في غضون دقيقة واحدة، تغيرت أشياء كثيرة، حياة
الملايين من المقيمين واللاجئين، الجغرافيا وما ألصق بها من حدود مصطنعة، وبعض
المواقف السياسية، أما ما لم يتغيّر فهو الموقف من السوريين القاطنين في شمال غرب
سوريا، فهؤلاء بقوا منبوذين دوليا، لأنهم ثاروا قبل عقد، وحوصروا بما يكفي لمنع
إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ثم جرى استثمار
الزلزال الذي دمر منازلهم وقتل أحباءهم،
لإعادة تأهيل نظام بشار الكيمياوي، فإذا المساعدات تتوالى والطائرات تحج إلى دمشق
بعد طول انقطاع.
عندما ضرب الزلزال ضربته لم يفرق بين الحدود التركية
السورية، فهذه التقسيمات ليست إلا بشرية استعمارية، أقرّها الغزاة عام 1923 ضمن
اتفاقية لوزان، ودكها الزلزال في 2023، أي بعد قرن من التقسيمات. وفي ذلك رسالة
على مأساويتها، تعيد التذكير بما كانت عليه هذه الحدود في ظل نظام الخلافة والأمة
الإسلامية الواحدة، ولذا من المهم الإشارة إلى أن هذا الزلزال لو وقع في تلك
الحقبة لاختفت التسميات التقسيمية، وبرزت أسماء المناطق باعتبارها أجزاء من جسم
واحد لا جسمين.
لم يفرق الزلزال بين الجنسيات والانتماءات القومية
والوطنية، والتصنيفات العرقية والطبقية، وهذه مساواة لا وجود لها في عصر الدولة
الحديثة التي تصنف الناس وتوغل في العنصرية بين بني البشر، وفق قوانين وضعية ما
أنزل الله بها من سلطان. فجاء الزلزال ليذكر الجميع بتساويهم أمام سلطان خالقهم،
إذ لا فرق بينهم إلا بتقواهم أمام خالقهم ومالكهم، من لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون.
وإذا كان الزلزال لا يفرق بين الحدود والجغرافية، ولا
يحابي الانتماءات، فإن بني البشر يفعلون ذلك بكل صفاقة، ولم يكد ينتهي الزلزال حتى
بدأوا تقييم الكارثة من نظرة نفعية وسياسية، كان من ثمارها حرمان وحصار عدد من
المنكوبين لعدم وجود مصلحة مرجوة، ومد يد العون لعدد من المنكوبين، سعيا لتحقيق
مصالح معتبرة. وهذه النظرة وإن طغت على الحكومات الميكافيلية، إلا أنها لم تدنس
سرائر الملايين من الشعوب في البلدان الإسلامية التي جادت بما تستطيع لإنقاذ
المتضررين، في مشهد تلاحمي قلما يتكرر.
لقد أسفر الزلزال عن كلفة بشرية كبيرة، وخسائر مادية
ضخمة، وغيّر الخريطة الجغرافية والسكانية والمواقف السياسية، لكنه أيضا أفرز حالة
تعاطف وسخاء نفيس وأوبة روحية، ظن الناس أنها قد اختفت في زمن العولمة وعبادة
المادة، وتلك عبرة لمن يعتبر وفرصة مراجعة قد تعيد هندسة النظر إلى الحياة من أكثر
من منظور، وعدم الاقتصار على المنظور الغربي النفعي الذي طغى في السنوات الأخيرة.
كارثة الزلزال لا شك في أنها مأساة عظيمة، لكنها لا شك
حملت في طياتها رسالة بضرورة إعادة الاعتبار لقيمة الإنسان، انطلاقا من الرؤية
الإسلامية الشاملة، وبعيدا عن التصنيفات البشرية الوضعية، فهل من متلقٍ واعٍ لتلك
الرسالة؟