لم تكن زيارة
الرئيس
الإيراني إبراهيم رئيسي لدمشق وإجراؤه محادثات سياسية وأمنية واقتصادية مع
بشار الأسد، بنت اللحظة، فالزيارة كانت مقررة منذ أشهر، لكن القيادة الإيرانية آثرت
الانتظار ربطاً بمفاوضاتها مع السعوديين والعرب، ما يعني أن الجانب الإيراني كان
يتوقع الوصول لنهايات سعيدة مع السعودية طيلة المرحلة الماضية، على الرغم من
المواقف السياسية والإعلامية المعلنة والتي كانت تدور بين الجانبين، والتي كانت
توحي بأن الجانبين لا يمكنهما الجلوس سوية على طاولة واحدة.
وهذا يوحي بأن
طهران كانت مرتاحة إلى مناخات التفاوض مع السعودية في العراق والصين، وإلى تبدّل
النهج السياسي في مركز قرارها، بامتلاك القيادة السعودية الجديدة زمام المبادرة.
وهذا الانفراج الضمني يفسّر على الأرجح حرص حزب الله وحلفائه في
لبنان على عدم
تجاوز سقف معيّن في المواجهة مع الرياض، حتى في أكثر لحظات الصراع حدة وضراوة.
والسعي الإيراني
لتتويج الزيارة إلى
سوريا في هذه المرحلة مرده الرئيسي هو أن تكون زيارة رئيسي
متزامنة مع مناخات التهدئة والحوار مع الخليج والعرب، وهذا يثبت فكرة أن الإيرانيين
يحرصون على الإيحاء بعدم رغبتهم في السيطرة الكلية على سوريا، عبر إشراك السعوديين
والقطريين في أي تسوية مستقبلية إلى جانب الأتراك والروس، انطلاقاً من مكاسب تعتبرها
طهران نافذة رغم كل الظروف.
ويبدو أن إيران
اليوم وصلت لقناعة راسخة مفادها أنها بحاجة في المستقبل القريب والبعيد إلى غطاء
عربي وإسلامي (سني)، وذلك لترتيب أي تسوية مستقبلية في سوريا، وهذا الغطاء يحب أن
تؤمنه كل من السعودية وتركيا لكونهما قطبي العالم الإسلامي السني في المنطقة،
باعتبار أن السعودية هي الغطاء الأفضل لتعويم بشار الأسد في المنظومة العربية. وهذا
السقف ثبته حافظ الأسد في ذروة خلافه مع الخليج، مبقياً على كل الخطوط المفتوحة مع
السعودية، ورَعى معها توافقات إقليمية بالغة الأهمية أهمها في لبنان مع رفيق
الحريري.
وثمة اعتقاد لدى
الإيرانيين يقول إن تفاهمهم مع السعودية في ملفات الشرق الأوسط وتحديداً سوريا
والعراق، يؤدي إلى تقليص هامش المواجهة بين طهران وواشنطن، لأن الرياض ستكون مضطرة
إلى خوض معركة الدفاع عن هذا التفاهم، سواء نجحت في إقناع واشنطن أو أجبرت على خوض
أي مواجهة مستقبلية معها، كذلك لم يعد لدى طهران أماكن كثيرة للمقايضة بينها وبين
السعودية في أي تسوية.
وتحديداً هناك
سوريا واليمن في المراحل الأولى، ثم العراق ولبنان، ومن مصلحة طهران أن تكون السعودية
الحاضر الأبرز في إعمار سوريا وانتشال لبنان، عبر استقطاب باقي الخليج مع الرياض،
كذلك ستكون أكثر الفرص الاقتصادية السانحة لإيران للانخراط في الأسواق التجارية
العربية المتطورة والمتقدمة، ما يفتح أبوابا استثمارية مشتركة تخفف من حدة
العقوبات على طهران.
وفي الملف
اللبناني يبدو أن الظروف غير مؤاتية لإنتاج تفاهم رئاسي يرضي كل الأطراف، وخاصة حزب
الله رغم الليونة التي يظهرها هذا الاستحقاق على غير العادة. الورشة مفتوحة بحثاً عن
تسوية ترضي الجميع، والأمور تبدو أكثر تعقيدا بسبب كثرة اللاعبين الإقليميين
والدوليين وتضارب مصالحهم، وتحديداً اللاعب الفرنسي الذي بات ينظر للبنان كساحة
تحقيق مكاسب اقتصادية عبر السيطرة على المرافق المنهارة.
وفي الفترة
المقبلة، سيكون الهاجس الأكبر لدى السعودية وإيران بعد قطع شوط في الملف اليمني،
هو التوافق حول سوريا وتوازنات القوى فيها. عبر تحديد دور الأسد داخليا وعربياً، والنقاش
حول حصص القوى الميدانية وتحديداً روسيا وتركيا، وستكون القمة العربية المقرر
عقدها في الرياض بعد أيام، بمثابة الإشارة إلى الرؤية السعودية للأسد وسوريا إذا
ما تقرر دعوة النظام للحضور.
لذا فإن لبنان
سيكون فعلاً الملف الأكثر تقدماً في سياقات المرحلة المقبلة، وهذا الأمر يتبدى في
العديد من الإشارات الإقليمية الواضحة، أهمها دخول الجانب الأمريكي إلى الملف
الرئاسي منذ أسابيع قليلة عبر مداولات الكونجرس والرسالة القاسية التي وُجهت
لبايدن من قبل زعيمي الديمقراطيين والجمهوريين في مجلس النواب، وتحميل الإدارة
مسؤولية تفرد الحزب ونبيه بري في قيادة العملية الانتخابية، مع تلويح مستمر بسلة
عقوبات تطال مقربين من رئيس المجلس النيابي في لبنان كرسالة على إمساكه المعهود بفصول
اللعبة البرلمانية.
ويبدو أن إصرار
بري على فرنجية ليس حباً بالحليف فحسب، بل في إطار تأمين خروج آمن له في المستقبل
مع تهاوي "السيستم" مع رياض سلامة وما يمكن أن ينتج عنه.
في المقابل فإن الاندفاعة
القطرية داخل لبنان باتت تطرح تساؤلات عن حقيقة هذا الدور، وخاصة أن الدوحة تمتاز
على عكس الأطراف الخارجية الأخرى بقدرتها على التواصل مع كل الأطراف السياسية
المحلية والإقليمية، ومن هذا المنطلق تنظر الأطراف إلى الدور القطري على أنه تكامل
واضح مع الرياض وواشنطن، وخاصة أن الجانبين يلتقيان مع القطريين على ضرورة إنتاج
طبقة حكم غير متورطة بالفساد والأزمات، وقادرة على خلق مناخ يشي بأن لبنان بدأ
يتغير بعد توقيع ترسيم الحدود مع إسرائيل.
لكن هذا السياق
مرده مرتبط أيضاً بحالة التنافر الأمريكي- الفرنسي، وخاصة بعد تصريحات المتحدث
باسم الخارجية الأمريكية ماتيو ميلر الذي تقصّد بشكل واضح تغييب ذكر المبادرة
الفرنسية، عبر كلامه عن التحرك بنحو عاجل لانتخاب رئيس يعمل على توحيد البلاد
وإقرار الإصلاحات المطلوبة ووضع قادة لبنان جانباً مصالحهم وطموحاتهم، إلا أن
خلفية الكلام واضحة وتطال محاولات باريس للتدخل في توازنات القوى. وخلال الأسابيع
الماضية، ظهرت تطورات دولية زادت من التباعد الأمريكي- الفرنسي الحاصل من خلال
موقف الرئيس الفرنسي إثر زيارته الصين ودعوته إلى ابتعاد أوروبا عن النزاع الصيني-
الأمريكي، ما اعتُبر أن موقف ماكرون من مضيق تايوان موقف ضعيف من مسألة أساسية
وحيوية تخص أمن التجارة الدولية.
والاعتراض الأمريكي
الواضح على الممارسات الفرنسية في لبنان، سيخفف الاندفاعة الفرنسية، والتي
اعترضتها أصلاً عوائق داخلية عدة، وخصوصاً الاعتراض المسيحي على فرنجية، والذي لا
يمكن تجاوزه، ما يعني أن ثمة مرحلة جمود قد تحصل على مستوى الملف الرئاسي،
وسيُستعاض عنها بانتظار ما سيخرج عن القمة العربية بعد أكثر من أسبوعين، أيضاً ما
سيُستجد على مستوى الحركة الإيرانية- السعودية خصوصاً في اتجاه سوريا.