انتقلت الدراما
السياسية في
لبنان وتحديداً الرئاسية منه إلى فصل جديد من الفوضى والعبث السياسي،
حيث يشي الواقع المحلي بأن مداه الزمني غير معلوم، وأما ما قد يرخيه من تداعيات
فمتروك أمره للعبة المفاجآت المجهولة. ويأتي ذلك في موازاة رياح خارجية ضاغطة على
الداخل اللبناني للإفراج عن انتخابات رئاسة الجمهورية، وتصويب المسار الداخلي في
اتجاه انتخاب رئيس في القريب العاجل.
واللافت للانتباه
في هذا السياق، هو ارتفاع النبرة الأمريكية تجاه الملف الرئاسي إلى حدّ التلويح
بعقوبات على المعطّلين، وفق ما أعلنته مساعدة وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق
الأدنى بربارا ليف، من أنّ "إدارة الرئيس جو بايدن تنظر في إمكانية فرض
عقوبات على المسؤولين اللبنانيين على خلفية عدم انتخاب رئيس"، ملمّحة إلى أن
بلادها تعمل مع الأوروبيين لدفع البرلمان اللبناني إلى القيام بواجبه في انتخاب
رئيس للبلاد، في المقابل فإن التلويح بالعقوبات بات جديّاً في ظل ما تسرب عن أنه
سيشمل رئيس مجلس النواب نبيه بري شخصياً.
وعلى الخط الموازي،
تدفع
فرنسا نحو ترجمة الفرصة المتاحة حالياً لانتخاب رئيس، لذا فإن الخط الفرنسي
سيشهد حركة متزايدة في هذا الاتجاه، وارتفاعاً ملموساً في وتيرة النصائح للمسؤولين
في بيروت، والتحذيرات من واقع لبناني يتقدّم بسرعة لكي يصبح ميؤوساً منه، مع تهديد
بترك لبنان لمصيره العالق بيد العصابة الحاكمة.
بالتوازي، لم
يثبت المراقبون السيناريو الرئاسي الأقرب من السيناريوهات المحتملة بعد أن تداخلت
فيما بينها وتشعبت. وبَدل أن يقدّم لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع
البطريرك الماروني بشارة الراعي أي إشارة حاسمة، طلبَ من أعضاء الوفد المرافق
للبطريرك الصمت حتى يوم الأحد.
وعلى الرغم من كل
التسريبات التي رافقت لقاء الرجلين في قصر الإليزيه، لم يتمكن أيّ من المتابعين من
الحصول على أي معلومات تفصيلية خارج التوصيف الإيجابي للقاء بعبارات قليلة نقلت
على ألسنة أعضاء في الوفد المرافق للراعي وأركان خلية لبنان في الإليزيه على حد
سواء، بعيداً عن مجموعة السيناريوهات التي انتشرت على وَقع جملة من المؤشرات التي
سبقت اللقاء، وخَلت من أي معطيات أخرى تتحدث عن النتائج التي انتهى إليها حوار
امتدّ ساعة وعشر دقائق. فقد غادرَ الراعي قصر الإليزيه إلى الطائرة التي أقَلّته إلى بيروت وكان فيها قبل منتصف الليل، مُمتنِعاً عن الإدلاء بأي موقف، كما تم
التعميم على الوفد المرافق بضرورة الصمت المُطبق حتى عظة الأحد المقبل.
الموقف الفرنسي الذي تراجع خطوات إلى الوراء بعد لقاء ماكرون-الراعي وتبني المعارضة والتيار العوني لأزعور، وبات الموقف الفرنسي المعلن هو في عدم تمسّك فرنسا بأي اسم محدد، بل بوجوب إنجاز الاستحقاق الرئاسي قبيل انفجار الأوضاع الاقتصادية، والتعاطي بواقعية مع التحدّيات القائمة، مع ضرورة احترام إرادة المسيحيين
وقبل ساعات قليلة
لمغادرته بيروت إلى روما والفاتيكان قبل باريس، كان الراعي قد تلقّى تقريرا مفصّلا
عن نتائج المناقشات الجارية لجمع المعارضة (القوات والكتائب والتغييرين) مع التيار
الوطني الحر على مرشح رئاسي لا يشكل استفزازاً لأي طرف، وخاصة أن رئيس التيار
الوطني الحر جبران باسيل أبلغَ إليه أدق التفاصيل والتوجّه الذي يقوده لتوحيد
الموقف مع المعارضة بمختلف عناوينها المسيحية والسنية والدرزية.
ويحضّر أركان
المعارضة الترتيبات الخاصة بلقاءٍ سيُعقد بين المعارضة وأزعور فور عودته من الرياض
في الأيام المقبلة، حيث يتواجد في الرياض كمسؤول عن قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
في صندوق النقد الدولي في أعمال لقاء ينظّمه الصندوق في العاصمة السعودية، ويقال إنه
التقى مسؤولين سعوديين يتولون الملف اللبناني.
باختصار، فإنّ
الموقف الفرنسي الذي تراجع خطوات إلى الوراء بعد لقاء ماكرون-الراعي وتبني
المعارضة والتيار العوني لأزعور، وبات الموقف الفرنسي المعلن هو في عدم تمسّك فرنسا
بأي اسم محدد، بل بوجوب إنجاز الاستحقاق الرئاسي قبيل انفجار الأوضاع الاقتصادية،
والتعاطي بواقعية مع التحدّيات القائمة، مع ضرورة احترام إرادة المسيحيين.
وهذه الزيارة
التي كانت محل رصد ومتابعة، ليس فقط على المستوى الداخلي اللبناني، بل أيضاً على
المستوى الخارجي، وخاصة الولايات المتحدة وقطر والسعودية، حيث أعطت انطباعاً بأن الإدارة
الفرنسية أقرّت بانتهاء مبادرتها الرئاسية القائمة على ثنائية سليمان فرنجية- نواف
سلام، حيث ستباشر في إدخال تعديلات على رؤيتها السياسية تجاه الحل في لبنان، وأمام
حالة التصلب الداخلي، باتت الظروف اللبنانية الداخلية تؤشر إلى دخول البلاد في مراوحة
عميقة تستند إلى تمترس حزب الله خلف طرحه الرئاسي.
وهذا إضافة إلى
أن المناخات الخارجية والاهتمامات باتت تصب في أولويات أهم من لبنان، فواشنطن تركز
على معركة أوكرانيا بعد تزويدها لحليفتها بأسلحة جديدة متطورة، فيما الأولوية
الأخرى تكمن بإنجاز الاتفاق النووي مع كافة السياقات السياسية والأمنية
والاقتصادية المحيطة به، فيما لا تزال الرياض وطهران ترقبان الارتدادات والنتائج
التي ظهرت عقب الاتفاق في بكين، وعلاقات السعودية مع الأتراك والإسرائيليين، وهو
ما يعني أن الملف اللبناني سيُركن جانباً في المرحلة المقبلة، إلا في حال حصول
مفاجآت غير متوقعة، خصوصاً أنه يشكل عامل إزعاج للقوى الخارجية بسبب تعنت المنظومة
الحاكمة.
الملف اللبناني سيُركن جانباً في المرحلة المقبلة، إلا في حال حصول مفاجآت غير متوقعة، خصوصاً أنه يشكل عامل إزعاج للقوى الخارجية بسبب تعنت المنظومة الحاكمة
بالتوازي فإن
الدوحة على سبيل المثال تعمل على إحاطة الدول الخمس بجولات الموفدين القطريين إلى
بيروت والعمل على مجموعة دراسات تحليلية للواقع اللبناني، وتحديداً في هيكل
المؤسسات التي تشهد انهيارات متسارعة في القطاع العام، لأن الظروف الداخلية
اللبنانية لم تعد تحتمل مزيداً من صياغة تسويات لا إصلاحات سياسية واقتصادية
وهيكلية فيه. وتعتقد الدوحة أن أي حل يتحقق على المستوى اللبناني سيؤدي إلى تسهيل
الحلول في مساحات جغرافية أخرى وخاصة في سوريا والعراق.
وتشارك قطر في تأمين
مظلة إقليمية قوية وفق تفاهمات أوسع، تفتح الطريق أمام قيام سلطة لبنانية جديدة،
تعطي الأولوية لمعالجة أزمات الساحة اللبنانية سياسياً واقتصادياً، أيضاً بإعادة الانتظام
العام إلى مؤسسات الدولة، وهي الوصفة المثالية لإعادة لبنان إلى طريق التعافي المنتظر.
ووفق التصورات
القطرية، يستعد وفد جديد من الدوحة للعودة للبنان لمواكبة نشاط اتفاق المعارضة
مع باسيل ونواب سنة ومستقلين، ولكن بعد انعقاد الاجتماع الخماسي في الدوحة والذي
سيجري بحضور وزراء الخارجية ومدراء الاستخبارات، في انتظار ذلك، من المتوقع أن
تشهد الساحة السياسية اللبنانية تصعيداً سياسياً في تناسق طبيعي لحالة المراوحة
والتعنت.