منذ
أن ظهر "الخبير الدستوري"
قيس سعيد على الساحة الإعلامية، كان واضحا أن
استراتيجيته الاتصالية -سواء أكانت عفوية وفردية، أم كانت مبرمجة ومرتبطة بجهات
معينة- تقوم على اتخاذ مسافة واحدة من مختلف الفرقاء الحزبيين والأيديولوجيين. ولذلك
انتقد السيد قيس سعيد الحكام والمعارضين، معتبرا انحراف الصراع السياسي إلى مدار
الصراع الهوياتي جزءا من انحراف أعظم دلّست به النخب إرادة الشعب وأفسدت به عملية
"التأسيس الجديد". ورغم حرصه -حتى فترة قريبة من الانتخابات الرئاسية-
على عدم التحول إلى منافس أو بديل سياسي صريح للنخب الحاكمة والمعارضة، فإنه قد
نجح في تحويل رأسماله الرمزي المرتبط بسلطته الاعتبارية أو التحكيمية إلى قاعدة
لمشروع سياسي يتمركز حول الديمقراطية القاعدية أو المباشرة. وهو ما حصل عندما قدم
ترشحه للانتخابات الرئاسية، واستطاع أن يفوز فيها -بفضل سياقات معينة- على كل
الكيانات السياسية والأيديولوجية التي سيطرت على المرحلتين التأسيسية والتوافقية.
بالنسبة إلى أغلب "الديمقراطيين التونسيين"، فإن ضرب الأجسام الوسيطة واحتكار جميع السلطات في قصر قرطاج، بل العودة إلى مربع الاستبداد وعبادة الزعيم، هو ثمن مقبول إذا كان سيُخرج حركة النهضة من الحكم، وربما من العمل السياسي القانوني، وهو أيضا ثمن معقول إذا كان الواقع السلطوي الجديد سيعيد النهضويين أو المتعاطفين معهم إلى ملفات حقوقية ومواضيع للقمع الأمني وللإقصاء الممنهج من أجهزة الدولة
رغم
خلوّ تاريخ الأستاذ قيس سعيد من أي نشاط نضالي ضد منظومة الحكم في لحظتيها
الدستورية والتجمعية، ورغم أنه كان "مواطنا مستقرا" ومطبّعا مع نظام
المخلوع بل متعاونا معه في بعض محطات "الإصلاح الدستوري"، فإن آلته
الدعائية قد نجحت في حجب هذه الوقائع وفي إخراجها من دائرة السجال العمومي. كما
نجحت تلك الآلة في إخفاء العقل "الوطدي" الذي نظّر لمشروع الرئيس، ذلك
العقل السياسي اليساري "الوظيفي" الذي ارتبط دائما بخدمة المخلوع
والمشروع الفرنكفوني من جهة أولى، وبإدارة الصراع ضد الإسلاميين -سواء قبل الثورة
أو بعدها- بمنطق
الاستئصال والمقاربة الأمنية من جهة ثانية. وهي معطيات سيكون لها
تأثير كبير في خيارات الرئيس بعد "إجراءات" 25 تموز/ يوليو 2021، سواء اعتبرناها انقلابا أم "تصحيحا" لمسار الانتقال الديمقراطي.
خلال
إدارته الفردية لـ"حالة الاستثناء"، كان واضحا أن الرئيس
التونسي بصدد
تحويل المرحلة الانتقالية المؤقتة إلى مرحلة تأسيس لجمهورية جديدة ذات نظام
رئاسوي. ولم تر أغلب النخب "الحداثية" في ذلك التمشّي ما يثير الريبة أو
يهدد الديمقراطية بصورة جدية. فبصرف النظر عن المزايدات الخطابية المحذّرة من
الانحراف نحو الاستبداد والاستعداد لمقاومته (وهو خطاب اتحاد الشغل وأغلب مكونات
المجتمع المدني والكثير من الأحزاب "الديمقراطية")، كان الرئيس قد حقق
لكل هؤلاء ما عجزت الانتخابات والاغتيالات السياسية والتجييش الإعلامي عن تحقيقه:
إخراج
النهضة من الحكم.
بالنسبة
إلى أغلب "الديمقراطيين التونسيين"، فإن ضرب الأجسام الوسيطة واحتكار
جميع السلطات في قصر قرطاج، بل العودة إلى مربع الاستبداد وعبادة الزعيم، هو ثمن
مقبول إذا كان سيُخرج حركة النهضة من الحكم، وربما من العمل السياسي القانوني، وهو
أيضا ثمن معقول إذا كان الواقع السلطوي الجديد سيعيد النهضويين أو المتعاطفين معهم
إلى ملفات حقوقية ومواضيع للقمع الأمني وللإقصاء الممنهج من أجهزة الدولة، تحت
شعار "التطهير" وما يؤسسه في سردية "مقاومة الأخونة" والتصدي لاختراق
مؤسسات الدولة، بل التصدي لـ"اختراق" مختلف أشكال التنظيم في المجتمع
المدني والنقابات (وهو مطلب أغلب "القوى الديمقراطية" -أي القوى
الانقلابوقراطية- منذ رحيل المخلوع).
سواء أكان المعني بخطة "تطهير الإدارة" هم "النهضويون" وحلفاؤهم دون غيرهم (وهو الراجح بحكم هيمنة العقل الوطدي على السلطة)، أم كانت الخطة تتعداهم لتشمل المحسوبين على النقابات (بحكم توتر العلاقة بين اتحاد الشغل والرئيس)، فإن هذا الخيار السلطوي لا يمكن فصله عن استراتيجية الهيمنة على مختلف أجهزة الدولة منذ 25 تموز/ يوليو 2021، تلك الاستراتيجية التي حوّلت غاية "حالة الاستثناء" من التصدي للخطر الداهم إلى محاربة "الخطر الجاثم" (وهو في السردية الرئاسية ضرب كل ما يرتبط بـ"العشرية السوداء" وبالديمقراطية التمثيلية من أجسام وسيطة ورموز سياسية، أي الانقلاب على كل مخرجات الانتقال الديمقراطي
بصرف
النظر عن الأصول النازية والفاشية لكلمة "التطهير" وما يشابهها من
المفردات الاستئصالية، وبصرف النظر أيضا عن التطبيقات المعلومة لهذا المنطق في عهد
المخلوع وآثارها الكارثية، فإن الحديث عن "تطهير الإدارة" من لدن
رئيس الجمهورية يثير إشكالا دستوريا. فالدستور الجديد للجمهورية التونسية (دستور 2022)
في فصله التاسع عشر يؤكد على أنّ "الإدارة العمومية وسائر مرافق الدولة في
خدمة المواطن على أساس الحياد والمساواة، وكل تمييز بين المواطنين على أساس أي
انتماء جريمةٌ يعاقب عليها القانون". وهو ما يعني منطقيا أن استهداف الموظفين
العموميين "على أساس أي انتماء" (أيديولوجي أو حزبي) سيكون
"جريمة دولة" بحكم أنها هي من حرّض على هذه السياسة وأعطاها غطاء
سياسيا بصورة تحيي المخاوف المشروعة للتونسيين من الاستهداف على أساس سياسي، خاصة
منهم ضحايا النواة الصلبة للمنظومة القديمة ولذراعها الأمني- الأيديولوجي الوطدي
الذي كان وراء الخيارات/ المآلات الكارثية لنظام المخلوع.
وسواء
أكان المعني بخطة "تطهير الإدارة" هم "النهضويون" وحلفاؤهم
دون غيرهم (وهو الراجح بحكم هيمنة العقل الوطدي على السلطة)، أم كانت الخطة
تتعداهم لتشمل المحسوبين على النقابات (بحكم توتر العلاقة بين اتحاد الشغل
والرئيس)، فإن هذا الخيار السلطوي لا يمكن فصله عن استراتيجية الهيمنة على مختلف
أجهزة الدولة منذ 25 تموز/ يوليو 2021، تلك الاستراتيجية التي حوّلت غاية
"حالة الاستثناء" من التصدي للخطر الداهم إلى محاربة "الخطر
الجاثم" (وهو في السردية الرئاسية ضرب كل ما يرتبط بـ"العشرية
السوداء" وبالديمقراطية التمثيلية من أجسام وسيطة ورموز سياسية، أي الانقلاب
على كل مخرجات الانتقال الديمقراطي التي غيّرت -ولو بصورة هشة- آليات توزيع السلطة
والثروة في عهد المخلوع جهويا وأيديولوجيا).
لا
تكمن خطورة خطاب "التطهير" فقط في كونه يمهّد لتدجين الإدارة واستلحاقها
بقصر قرطاج كما حصل مع العديد من القطاعات الأخرى، بل إن خطورته تكمن في أنه سينقل
الصراع السياسي إلى الإدارة وسيزيد في ترسيخ حالة الانقسام المجتمعي. فحجة
"تحييد الإرادة" هنا لن تعنيَ إلا إحالة هذا الملف إلى الدوائر الأمنية
والأيديولوجية التي ستشتغل ضد الفصل 19 من دستور النظام الحالي نفسه. فالانتداب أو
الترقية أو الإعفاء ستكون بالضرورة عمليات "مسيسة" ومؤدلجة وستتم على
أساس "التمييز" بين المواطنين (تمييز إيجابي على أساس الولاء للرئيس
ومشروعه، والتقاطع الأيديولوجي مع أنصاره من اليساريين والقوميين والتجمعيين
الجدد، وتمييز سلبي على أساس المعارضة للرئيس أو حتى شبهة التعاطف مع معارضيه).
المنطق السلطوي الذي لا ينفصل عن المقاربة الوطدية لإدارة الخلاف السياسي أو لبناء المشترك الوطني؛ سيكون بالضرورة في خدمة المنظومة القديمة ونواتها المالية- الجهوية مهما كان صدق نوايا الرئيس في استهداف "الفساد الممأسس"
ولا
شك في أننا هنا أمام نسف لمنظومة الحريات والحقوق الفردية والجماعية، بل أمام ردة
نسقية إلى "دولة ما دون المواطنة" أو "المواطنة المشروطة"،
تلك الدولة التي بشّرنا الرئيس بأنه لا عودة إليها (باعتبارها جزءا من الماضي الذي
تشمله قولته المعروفة بأنه "لا عودة إلى الوراء")، ولكنه حوّل مشروعه
السياسي (التأسيس الثوري الجديد) إلى واجهة من واجهاتها المختلفة بعد الثورة، تلك
الواجهات الحزبية والأيديولوجية التي تحركت كلها -بانحرافات متفاوتة- خارج أفق
"المواطنة التامة" التي لا تنفصل بالضرورة عن استحقاقات الثورة
وانتظارات ضحايا المنظومة القديمة ومهمّشيها جهويا وأيديولوجيا وفئويا.
وقد
يكون من نافلة القول أن نؤكد في خاتمة هذا المقال على أن المنطق السلطوي الذي لا
ينفصل عن المقاربة الوطدية لإدارة الخلاف السياسي أو لبناء المشترك الوطني؛ سيكون
بالضرورة في خدمة المنظومة القديمة ونواتها المالية- الجهوية مهما كان صدق نوايا
الرئيس في استهداف "الفساد الممأسس"، الذي يحمي مصالح منظومة التخلف
والتبعية بقوة القانون والأحزاب والمجتمع المدني وأجهزة الدولة، وغيرها من أدوات
الإذلال/العنف المادي والرمزي.
twitter.com/adel_arabi21