تقول الحكاية إن تاريخ أي أمة ما هو إلا خط متصل، قد يصعد أو يهبط أو
حتى يدور حول نفسه.. لكنه لا ينقطع.. وهي
مقولة صحيحة تماما، إذا ركزنا معناها ضوءا كثيفا على التأسيس الأول للجيش
المصري،
بعد اعتماد نظام التجنيد.. النظام الذي سيستقر ويرسخ وتتعمق جذوره في أعمق أعماق
تاريخ مصر الحديث.. لسبب واحد ووحيد.. فهو الذي سينشئ (
الجمهورية)! أو النظام
السياسي الذي ستعرفه أم الدنيا لاحقا من منتصف القرن العشرين..
وكيف كان ذلك؟
***
تقول الحكاية التي ستتبعها ألف حكاية وحكاية.. أنه ومن اليوم الأول
لتسلمه مقاليد حكم مصر، أدرك مؤسس مصر الحديثة
محمد علي باشا (ت/1849م) أن بناء
جيش حديث وصناعة حديثة هو ما يوفر له الدعم الكافي كله للحركة نحو أهم خطوة في كل
خطواته.. التي سيدرك بها ويلحق طموحه الذي كان يقارب السحاب رفعة وارتفاعا.
إذ كان يرنو ويتطلع إلى الآستانة.. عاصمة الخلافة، وعليه فقد بدأت
تتبلور في رأس الرجل فكرة (الدولة المركزية) كخطوة أولى وكلية وشاملة في هذا
الاتجاه.. فبسط سيطرة الدولة الكاملة على الأرض الزراعية، والتجارة، والتعليم،
والقضاء، والتشريع.. وطبعا الجيش سيكون هناك دائما.
***
لقد عمل الرجل على بناء جيش قو]، جيش على النمط الأوروبي، مستعيناً
بضباط وإداريين فرنسيين قدامى قد كانوا اضطروا لهجرة بلادهم وتشتتوا في الدنيا بعد
هزيمة نابليون (ت/1821م) في معركة ووترلو سنة 1815م..
من بداية البداية والعقيدة العميقة في قلب هذا الجيش هي الارتباط
بصاحب الأمر في البلاد.. والذي سيكون جيش محمد علي باشا وجيش إبراهيم باشا ومن
يليهم من الحكام الذين سيرثون بمقتضى الاتفاقية الدولية الشهيرة (اتفاقية 1840 م)
التي أسست الوجود المعلن للـ (الدولة المصرية) التي أرتضتها الحضارة الغربية لقلب
الشرق ودرة تاجه..
كان الجيش المصري هناك دائما.. وسيكون هناك دائما.. في قرار دولي
اجتمع عليه وفيه كل (الأعدقاء!) أولئك الأعداء الذين أصبحوا أصدقاء من أجل هذه
اللحظة!!.. روسيا وإنجلترا وبروسيا والنمسا..!! بعد أن وضعوا أيديهم في أيدي
الدولة العثمانية عدوهم الاستراتيجي القديم الجديد..
وتم إرجاع جيش مصر والشرق من الأناضول قسرا إلى القاهرة، بعد أن ذهب
ليجدد دماء الدولة التي ترمز للأمة في عموم الشرق الإسلامي..
***
سننتبه دائما إلى أن الاحتلال الإنجليزي طوال فترة وجوده في مصر (1882/1954
م) عمل بقوة على تعزيز سيطرة الدولة المركزية.. وحافظ في ذلك على مؤسسة الجيش..
وزاد ذلك كله بعد أن أعلنت بريطانيا الحماية على مصر بعد شهور قليلة من اندلاع
الحرب الأولى في 1914م التي ستنتهي بعد أربع سنوات 1918م .
ستمر السنوات الأخطر في تاريخ الجيش المصري وهو بعيد عما يدور حوله،
وإن كان منه وفيه.. وأقصد السنوات من ثورة 1919م.. وحتى بعد توقيع معاهدة
الاستقلال المشروط في 1936 م.
ستكون إنجلترا غارقة في تفاصيل استراتيجية ضخمة بطول وعرض العالم كله..
هذا العالم الذي سكون عليه خوض حرب من أكثر الحروب وحشية في التاريخ الإنساني.. وسيرافق
ذلك حدثا هاما في مصر.. إذ ستفتح الكلية الحربية أبوابها لأبناء الطبقة الوسطى..
وستعمل الحكومة مع الاحتلال على تنمية قدرات الجيش.
***
منذ التحاق أبناء عموم المصريين بسلك الضباط وشيئاً ما في عقيدة
الجيش سيأخذ في التغير، شيئا فشيا.. والأخطر والأهم هنا، أن عددا كبيرا من هؤلاء الضباط سيكون له خلفية سياسية
وفكرية من مصدر أو أخر.. أنت الآن في بلد ليبرالي.. ومفتوح.. ومحتل.. وستأتيك
الأفكار حتى وإن لم تأتها.. وستتكون النواة الأولى لحركة الضباط الأحرار ساعتئذ..
ستخرج إنجلترا جريحة مهيضة من تلك الحرب التي ستصنع (كومندانا دوليا)
جديدا سيكون هو القيم الجديد على قيم واستراتيجيات الحضارة الغربية / المسيحية..
أمريكا .
وستنتهي مراكز صناعة الأفكار والاستراتيجيات التى كانت بعد (حجرات
صغيرة) فى صروح أجهزة المخابرات الإنجليزية والأمريكية الى حقيقة، مفادها أن
(الجيوش) العربية سيكون لها المستقبل فى إدارة عموم المنطقة.. ويجب علينا أن نشجع
ذلك! وكما انتهت ملكيات أوروبا بعد الحروب النابليونية (1803/1815م).. ستنتهى
تقريبا كل ملكيات الشرق العربي بعد الحرب العالمية الثانية.. لكن الأهم هنا، من
سيكون (سيد اللعبة)؟
***
حين قام الجيش بحركته (الضباط الأحرار) فى 23 يوليو 1952م كانت هناك
مقابلات ضرورية مع حيفرسون كافري (ت/1974م) والذي سيشرف شخصيا على خروج آخر أبناء
الأسرة العلوية (الملك فاروق ت/1965م) ..وأيضا السيد كيرميت روزفلت (ت/200م) ضابط
المخابرات الأمريكي الشهير والذي كان قد بدأ نشاطه في مصر مبكرا.. وزادت وتعاظمت
بعد حريق القاهرة يناير 1952م.. للتدخل المبكر قبل تكرار 1919م جديدة.. وتأتي بما
لا يمكن التنبؤ به.. ولا يمكن التعامل معه.. وإسرائيل لازلت (خضراء العود) بعد.. فلم يكن قد مضى على تأسيسها أربع سنوات ..
***
سيتم كل شيء سريعا سريعا.. لكن المدهش هنا، أن كبرى الحركات
الإصلاحية في مصر والعالم العربي، أيدت ما حدث ودعمته.. فإن كان قد غاب عنها اتصال
الضباط المبكر بالأجهزة الدولية التي كانت ترتب الخرائط في المنطقة وقتها..! فهل
غاب عنها أن (المدرعة والدبابة) حين تدخل في السياسة والسلطة فإنها ستستعيد فورا
اللحظة التاريخية الأليمة القديمة.. لحظة (شرعية المتغلب)؟ وسيكون الحكم ومقاليده
كلها تبدأ من هذا التغلب وتنتهى عنده.. وستكون السياسة كلها تغلب في تغلب.. ولن
يكون هناك مكان بعدها لرأي أو شورى أو مؤسسة أو حزب أو جماعة أو تنظيم.. الخ.
***
سيسبق الزعيم القادم بالتغلب الجميع، وسيكتب مقالا من خمسة ألاف كلمة
ستنشره له مجلة (فورين افيرز) الأمريكية فى عدد يناير1955م.. وسيقول فيه إن
الديمقراطية كانت في مصر مجرد غطاء للديكتاتورية! وأن الدساتير أدوات لاستغلال
الشعوب والسيطرة عليها..! ونحن اضطررنا لفرض قيود على الحريات لمنع (أعداء الشعب)
من استغلال الناس وتسميم عقولهم!! وأن الهدف النهائي للثورة هو إقامة حكومة
ديمقراطية ونيابية بحق!!.
هكذا قال الرجل بعد سيطرته على المشهد العام فى طول مصر وعرضها..
وللتاريخ حق الحكم على ما قاله.
***
ولدت (الجمهورية) إذن على يد الجيش، وسرعان ما سيقر التاريخ ويشهد
بذلك! إن الجيش هو (صانع الجمهورية وحارسها)، وسيأتي حكام (الجمهورية) تباعا من
قلب (الدولة المركزية) الأكثر غوصا في دنيا العمران الجديد الذي أنشأه محمد على
باشا.. من (الجيش) . .
ورحم الله الشاعر الكبير الشريف الرضى(ت/1016م) الذي قال:
ولم أدر حين وقفت بالأطلال *** ما الفرق بين جديدها
والبالي
ولن ننسى الدعاء أيضا لمحمد على باشا مؤسس (مصر الحديثة) في ذكرى
وفاته 2 أغسطس 1849م.. وليرحمه الله.