"إذا
كان الزمان غير الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض
لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم،
تجعل دوام الحال من المحال، ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين! وإن الكيل
بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في
المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.
وفي
تاريخ الحروب
والثورات التحريرية العظمى، دروس للمعتبرين، وإن الذكرى قد تنفع حتى البغاة
والعصاة والطغاة، فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة
القرن العشرين دون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر
1954)، وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة
والساعة الدولية، عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر
المعتبرين بدروس التاريخ الحي، الذي عشناه في هذه
الثورة لحما ودما وجهادا
و"استشهادا"، لما يزيد عن السبع سنين، مماثلة لما يراه العالم
على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، في
معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد
الأمين على المحسنين والمسيئين، والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق المغتصب الذي لا
يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال
العريضة في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في
معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف
جيش تحريرها، حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال. وكنت شاهدا على كثير من
مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها
بالإحباطات والتقلبات والخيانات، التي اعترضت مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962، كان
هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور
احتلال، كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال؛ إذا بقي عزم الرجال كما كان
واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع
ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين، وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف، والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير
المدفونين في القدس الشريف على مر التاريخ الإسلامي للأمة، عندما كانت
أمة حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي (الأرحم
مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر
من 4000 مجاهد سنة 1948، ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة
الأشقاء في الأرض المباركة، التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في
أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة، على امتداد سماع الآذان
وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان، مرورا
بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر:
حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة
حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما
كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام؛ لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما
قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية، التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير، التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا
لأكثر من سبع سنين دون انقطاع)، في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة،
لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله،
ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات
وأحقاد تاريخية دفينة.
كنا
نعتقد، وإن بعض الظن ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة
والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة
بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان،
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار
ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار
دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان،
والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام
والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام
يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل
يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار
يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.
وهذا
المكيال العجيب الغريب بين إنسانين، لا يثير القلق فقط حول مصير البشرية في
هذا العالم (وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك
الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة، تتراجع إلى ما
تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة
والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة
عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان البشري
المتحضر المتعلم والمتقدم"!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى)
الأشقاء في الجزائر الثانية (فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب
تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.
ثورة لا تزال جراحها نازفة
إذا كانت أيام الشباب لدى الكائن الإنساني تمثل أقوى وأغلى أيام عمره
المديد، إذ بها وفيها يتقرر مصيره، وعليها يتوقف ـ غالبا ـ نجاح أو فشل حياته
المستقبلية، فإن الشبيبة من الأمة هي بمنزلة فترة الشباب بالنسبة لحياة الفرد، فهي
عصبها الحساس، وطاقتها المحركة والدافعة إلى تحقيق الأهداف المأمولة لها في الوجود
بين الأمم.
والجزائر إذا امتازت وتميزت في القرن العشرين بتحقيق أخطر وأعظم
إنجاز، نقلها من عمالات ثلاث تابعة لتراب الإمبراطورية الفرنسية في قلب ورأس القارة
الأفريقية، إلى رأس قائمة البلدان الحرة في العالم، فإنها تلك الثورة الجهادية
التحريرية الخالدة، التي ما تزال جراحها نازفة في الأجسام وصورها ماثلة في الأذهان،
لا تفتقر إلا لوسيلة التعبير التي تنقلها لجيل ما بعد الثورة. وما أعجز هذه
الوسيلة أن تنقل الصور الحقيقية المطابقة للوقائع، وما أصعب ـ في الوقت ذاته ـ أن
يصدق هذا الجيل بأن تلك الحقائق وقعت في عالم الشهادة! كما حاولنا أن نبرز بعض
جوانب عظمتها في الفصول السابقة.
ولا أدل على ذلك من تلك التعليقات التي نسمعها أحيانا من الشباب على
بعض الأفلام الثورية (كمعركة الجزائر، وريح الأوراس، الليل يخشى الشمس، الأفيون
والعصا...)، التي تتهم بأنها مغرقة في الخيال والمبالغة في الوقت الذي لم تكن تعبر
في مضمونها وشكلها، إلا على جزء يسير جدا من حقائق الثورة الجهادية وعمقها!
عندما جاءت الثورة الخالدة الصادقة مجسدة بمبادئها وأعمالها لأسمى صور هذه المعايير والقيم الدينية والأخلاقية، التي كانت بحق أسمى صور المثل الأعلى الأخلاقي الذي يمكن أن يتحقق في مجتمع إنساني معاصر، فكان لها قوة جذب شديدة لالتفاف الشباب من حولها، حيث ظل الالتحاق بصفوفها عنوان شرف يجبُّ كل ما يمكن أن يكون للفرد من عيوب سابقة.
ولكن لا نتعجب كثيرا عندما نعرف أن هذه الحقاقق قد أذهلت العالم، وغيرت الكثير من مفاهيم علمائه وساسته، وأذهلت المستعمر الفرنسي ذاته، وفاقت جميع
تصوراته وتخطيطاته، بالرغم مما كان عليه من خبرة وحنكة ودهاء.
ولا شك أن إنجازا كهذا، لا بد أن تكون للشبيبة به علاقة، ولا بد أن
يكون لها فيه دور، فما هي هذه العلاقة، وما هو ذلك الدور الذي قام به الشباب
الجزائري في أم الثورات التحريرية بامتياز في القرن العشرين؟
إذا كان من الثابت أن أول من تلقف مبادئ الثورة وتبناها بإخلاص، هي
الفئات أو الطبقات المحرومة في المجتمع. فإن أكثر من في هذه الشرائع الاجتماعية
تحمسا للثورة وتفاعلا معها هو شبابها؛ ذلك أن هذه الثورة قد أقبلت على الشباب
الجزائري بمبادئها وأهدافها وقيمها ونظامها، وهو في حالة من الفراغ المادي والذهني
مدمرين، صيراه ينظر إلى الحاضر نظرة ملل ورفض، وإلى المستقبل نظرة تخوف ويأس،
مشتتا وحائرا، بين مغامر ومهاجر، ومنتظر وصابر. فجاءت الثورة المباركة لتمثل أفضل
منقذ وأضمن مخرج، وأوسع فرج لهؤلاء، فانجذبوا إليها بقوة، فصهرتهم وخلّقتهم وصنعت
منهم ثوارا واصلوا المسيرة إلى النهاية، فكانوا أقوى الإمدادات المتجددة لها على
امتداد سنواتها السبع الشداد، وحصل بذلك تفاعل المبادئ السامية مع الإرادة القوية، فتحقق النصر المبين!
غير أن هذه العلاقة التفاعلية بين الشباب والثورة ما كان لها أن تحدث
بنفس الكيفية، لولا توفر مجموعة من العوامل التي صيرتها على تلك الدرجة من
الفاعلية، والحركية والكمال النسبي فوق الكرة الأرضية!
وبعد الاجتهاد في تحديد أهم تلك العوامل، حاولنا أن نفصلها بإيجاز في
النقاط التالية:
أولا ـ العامل النفسي:
من المسلم به في العلوم السيكولوجية أن فترة الشباب هي أخطر الفترات
التي يحدث فيها تغيير رئيسي ومهم في حياة الفرد، وفي تكوينه الجسمي والعقلي، ينقله
من طور الطفولة والمراهقة والمطالبة إلى طور الرجولة والكهولة والمغالبة، ومن حالة
العالة السائل إلى حالة المسؤول العائل، ومن الأحلام والآمال إلى مجابهة الواقع
المرّ، وتحمل أعباء الحياة الثقيلة والطويلة.
وهنا كثيرا ما تتحطم آمال الشاب أمام الواقع المغاير لطموحه، فتبعثه
الثقة بالنفس إلى تجاوزه بالرفض والتمرد، فيكون الشباب بذلك أكثر فئات الشعب
انصياعا لأي جديد، يتخذ منه متنفسا يتخطى به ذلك الواقع المفروض والمرفوض، كما
يكون أكثرها ميلا إلى التحرك، سلبا أو إيجابا، وسلبية أو إيجابية. هذه الحركة
تتوقف على نوعية المبادئ والأفكار التي يقتنع بها ويتشربها هذا الشباب المتعطش.
ويرجع هذا الميل الشديد والسريع في الاقتناع بالأفكار الجديدة
والتحمس لها إلى خلو ذهن الشباب، وفقر تجربتهم الحياتية (التي قد تدفع الكهول إلى
التردد في اتخاذ القرارات الخطيرة)، إلى جانب ما يأنسونه في أنفسهم من قوة جسدية،
وحيوية تبعث على الاعتداد بالنفس، وركوب المخاطر، وخوض المغامرات.
فقد اجتمعت هذه العوامل النفسية، وتكاملت مع ما فطر الله عليه الشباب
الجزائري من خصال طبعية وتطبعية متوارثة عبر الأجيال، فكانت من أقوى العوامل
التي ساعدت على تكوين النواة الصلبة لشباب الثورة التحريرية.
وإذا وضعنا العامل النفسي في المرتبة الأولى، فذلك لاعتقادنا أنه أمر
مهم جدا بالنسبة للشباب الجزائري الطموح إلى تحقيق مستقبل أفضل في كنف الحرية
والكرامة والسيادة.
ولئن رأى البعض أن العامل الاقتصادي هو الأهم في الثورة والتفاف
الجماهير من حولها، فإن ذلك إن صدق على الفئات الاجتماعية الأخرى الأكبر سنا، فإنه لا يصدق بالضرورة على الشباب، ولا أدل على ذلك من أن معظم الثورات،
والانتفاضات المعاصرة التي خاضها الشباب في العالم، لم تكن أسبابها اقتصادية أكثر
مما كانت رفضا جريئا للأوضاع السياسية والاجتماعية، سعيا وراء تغييرها وتجديدها
ببنيات وأنظمة يراها أفضل وأضمن لتحقيق أهدافه، وتجسيد أحلامه في الحياة الحرة
الكريمة.
ثانيا ـ العامل الديني:
لقد كانت المبادئ الإسلامية السامية التي انطلقت منها الثورة
التحريرية (كما بينا في الفصلين الأول والثاني)، واعتمدت عليها طوال قيامها من
الأسباب القوية التي رغبت الشباب في الالتحاق بها، ومن عظمة الإسلام أن مبادئه
الإنسانية الواضحة والسامية تقنع الجاهل والعالم والأمي والمتعلم والصغير
والكبير، فوجد جل الشباب الجزائري الميسور والمقهور والمهموم والمحروم ضالتهم في
الثورة، فتحمسوا لها، وازدادوا تشبثا بمبادئها لما كان يتجسد فيها من مطابقة
الأقوال للأفعال، ومسايرة المبادئ للتطبيق، فكانت المحرمات محرمة على الكل، لا على
البعض دون البعض، أو على فئة دون الأخرى، وكانت المنكرات تغير باليد قبل اللسان
والقلب، والوعود تنجز، والعهود توفى، والواجبات تؤدى (إن طوعا أو كرها)، وكانت
العدالة والنزاهة في ذلك تسود كل سلوك ثوري (ما عدا بعض الاستثناءات التي لها
حيثياتها الخاصة)، فكانت الثورة بذلك متجاوبة مع تطلعات الشباب الدينية منها
والدنيوية. فمحاربة المستعمر لديهم كانت ذات طابعين متداخلين ومتكاملين: طابع ديني
يتمثل في جهاد المعتدين، وطابع وطني يتمثل في تحرير البلاد واسترجاع مقومات
السيادة والشخصية الوطنية، وكلا المبدئين جمعهما الإسلام وثورته في معنى (النصر أو
الاستشهاد) و(حب الوطن من الإيمان).
فكان الانضمام إلى صفوف الجهاد، هو أحسن مراهنة رابحة بالنسبة للشبيبة
الجزائرية، حيث لا تخرج نتائجه عن إحدى الحسنيين: فإما مستقبل مضمون في الحرية
والاستقلال، أو خلود موعود في الجنة والنعيم.
وهكذا أثرت الثورة، (بمبادئها الدينية والدنيوية المتكاملة) في نفوس
الشبان، فنقلتهم من رعاة وطلاب ومشردين ومهاجرين، إلى أبطال أشداء مؤمنين
أقوياء. وهل يوجد أشجع وأقوى من الشاب الذي يتطوع لتنفيذ حكم الإعدام في والده، أو
أحد إخوانه إذا حكمت عليه الثورة الجهادية بالخيانة؟!".
وقد ساعدت على ذلك وحدة العقيدة الدينية والمذهبية في الجزائر
وانتشارها بين الأوساط الشعبية الوطنية كافة، ووحدة المذهب (المالكي الغالب) الذي
يوثر الفعل على القول والجدل العقيم!
فكان الشاب المؤمن مخلص الاعتقاد، سريع التنفيذ قليل التذبذب والتردد
في اتخاذ القرار، والتصميم على بلوغ الهدف الذي يقتنع بشرعيته، فاقتنع فعلا، وقرر
وصمم، فاستشهد وتحرر. وكان للعقيدة الإسلامية في ذلك دور لا ينكره حتى أعداؤها
المتعصبون!
وأذكر أن أحد قدماء المجاهدين قال لي مرة؛ "إنني كنت قبل الثورة
التحريرية شيوعيا أعتقد أن الدين أفيون الشعوب، كما علمونا. ولكن عندما التحقت
بصفوفها تعرفت على حقيقتها، وآمنت أن الدين بالنسبة للثورة الجزائرية - على الأقل
- كان محررا للشعوب، ومنبها لها، ولم يكن أبدا أفيونا مخدرا؟!".
هذا شاهد واحد، وأن الأمثلة على فاعلية الوعي الديني في تحريك
الجماهير الشعبية المؤمنة عموما، والشباب على وجه الخصوص نحو الثورة والانعتاق،
لهي أوسع من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر بالتفصيل في هذا المقام والمقال!
ثالثا ـ العامل الوطني:
فبقطع النظر عما يوجد بين الدين والوطن من علاقة متينة كما ذكرنا، فإن مفهوم الوطنية الذي كان يعتبر الدين عنصرا مستغرقا في فئته المركبة من العناصر
الثلاثة المتمثلة في الوطن والدين واللغة، وكما عبر عنها الإمام عبد الحميد بن
باديس بـ "الإسلام ديننا، العربية لغتنا، والجزائر وطننا"، الذي ظل من
الشعارات البارزة في الثورة التحريرية التي دفعت بالشعب إلى البحث عن نفسه، وإدراك
ذاتيته وشخصيته التي كانت أبسط نظرة واعية إلى المستعمر الاستطاني في الجزائر، تثبت
أنها شخصية متميزة تميزا جوهريا بهويتها في المعتقد واللغة والعادات والتقاليد
والقيم (راجع بيان أول نوفمبر في الفصل الأول الذي ينص على هذه الفوارق الجوهرية)،
وحتى في الصفات الفزيولوجية، فضلا عن الفوارق الصارخة في المستويات الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية، التي كانت تفصل أبناء الوطن وتميزهم عن أولئك الغزاة الذين
أقل ما يمكن وصفهم به، أنهم مغتصبون للبلاد وحقوق العباد! فصيروا المواطن غريبا في
وطنه لغة ودينا وتاريخا، وحقوقا اجتماعية وسياسية، مما جعل كلمة عربي (مواطن أصلي)
تأتي مقابل كلمة (ڤاوري) أي أجنبي دخيل، وتعني باليونانية و التركية "خنزير".
وكلمة عربي في المفهوم الدارج عندنا، ما تزال تعني الجنس واللغة
والدين، ولا أدل على ذلك من أن مجتمعنا إلى الآن في معظم شرائحه، لا يفرق بين
العربي والمسلم، فعنده كل مسلم عربي، والعربي لا يتصوره إلا مسلما!!
لقد كانت المبادئ الإسلامية السامية التي انطلقت منها الثورة التحريرية (كما بينا في الفصلين الأول والثاني)، واعتمدت عليها طوال قيامها، من الأسباب القوية التي رغبت الشباب في الالتحاق بها، ومن عظمة الإسلام أن مبادئه الإنسانية الواضحة والسامية تقنع الجاهل والعالم، والأمي والمتعلم والصغير والكبير.
وإن هذا الخلط الذي نتج أصلا عن ارتباط المواطن الجزائري الشديد
بالإسلام دينا والعروبة لغة وثقافة، قد قوى أكثر من ضغينة النخبة الوطنية على
الاستعمار، وضاعف من روح وطنيتها، ودفعها أكثر إلى أن تدرك بالقوة وبالفعل ذاتيتها
المتميزة تلك، وتحبط كل مناورة سياسية استعمارية أو حزبية وطنية، بما في ذلك سياسة
الإدماج التي أجمعت النخبة الوطنية والقوى الاستعمارية في الوقت ذاته على رفضها،
وإن بدوافع مختلفة وأحيانا متناقضة، حيث رفضها الوطنيون بدافع التميّز الهوياتي
(الديني واللساني)، ورفضها المستعمرون بدافع العنصرية والتعالي على الأهالي الذين
ظل يعاملهم (بكل استغباء) كعبيد فوق أراضيهم، وأجراء برؤوس أموالهم!
وأعتقد أن من الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها قادة الاستعمار العنصري
المتجبر، هو عدم تشجيعه لسياسة الإندماج، التي نادى بها بعض زعماء الأحزاب
الجزائرية في الثلاثينيات.
علما بأننا حتى لو افترضنا أن المستعمر قد شجع ذلك المخطط الإدماجي
منذ البداية ونجح فيه، فقد يتمكن من تأجيل موعد اندلاع الثورة إلى حين، ولكن لا بد
من حتميتها في النهاية، إذا ظل الشعب غير الشعب، والدين غير الدين، واللغة غير اللغة، بفضل جهاد إمام الجزائر عبد الحميد بن باديس الذي كان يعبر على لسان الشعب
الجزائري قائلا:
شعب الجـزائــــر مسلـــم وإلى العـروبـــة ينتســــب
من قال حــاد عن أصلـــه أو قال مات
فقــد كـــذب
أو رام إدمــاجـــا لـــــــه رام الـمحــال مـن الطلــب
ففي غمرة هذا الصراع العنيف الذي خلق جوا من الشعور بالإحباط واليأس
لدى الشاب الجزائري الذي لم يحصل، لا على حقوق اجتماعية وسياسية مثلما حصل عليها
غيره من شذاذ الآفاق الذين استقدمتهم فرنسا من كل البلدان، وأنعمت عليهم بجنسيتها،
ومنحتهم كل حقوق المواطنة على أرضه أمام أعينه! فكان هذا الشعور بالظلم قويا في
نفوس الأفراد، ثم سرعان ما عممته وعمقته ثورة الجهاد، فكان الشباب أول من رقص
بلا تردد على أنغام رصاص نوفمبر، الذي صحح فيما بعد المفاهيم الخاطئة لكل تلك
الأحزاب، فكان منها الذي اعترف ورجع إلى الصواب، باتباع الطريق الوطني الأصح
والأسلم، وكان الذي تعصب وتكبر فاندحر واندثر!!
رابعا ـ العامل الأخلاقي:
قد يبدو لأول وهلة أن الدين والأخلاق شيء واحد، في حين أنهما مختلفان، على الرغم من وجود ترابط وتداخل شديدين بين الاثنين في عالم السياسة والاجتماع.
والدليل على ذلك، أننا قد نجد أناسا متخلقين جدا (بحسب معيارنا
الأخلاقي) وهم غير متدينين، كما نجد أناسا متدينين، وهم أقل تخلقا، وبعبارة منطقية
نقول: إذا كان كل متدين متخلقا، فليس كل متخلق متدينا بالضرورة (مع اعتبار كل ما
في معاني الأخلاق من نسبية في المكان والزمان)، ومن هنا أردنا أن نبرز هذا العامل
كعنصر مستقل، له تأثيره الواضح في انجذاب الشباب الوطني إلى الثورة، وتحمسه لها.
فما من شك أن جل القيم الأخلاقية المتأصلة في المجتمع الجزائري ترجع
في أصولها إلى العقيدة الإسلامية، إلا أن هناك بعض الصفات الطبعية والتطبعية لدى أفراد الشعب
الجزائري قد ساعدت على التمسك بهذه القيم الأخلاقية، وتقديسها بكيفية تفوق أحيانا
(لدى البعض) التمسك بتأدية الشعائر الدينية ذاتها!
وتتمثل هذه القيم على الخصوص في (الإباء، الأنفة، الاستماتة في
الدفاع عن الحق، التمسك بالمبادئ، الوفاء بالعهد، عدم مخالفة الوعد.)، على أن هذه القيم الإسلامية وإن كانت مميزة
للشعب الجزائري في عمومه، إلا أنها غير مطلقة، ومن ثم فهي غير ثابتة، وستظل معرضة
للتغير والضعف والزوال، إذا لم يحافظ عليها عبر الأجيال وتقلب الأحوال.
أما الدليل على أن هذه المعايير والقيم ليست متمشية بالضرورة مع
تأدية الفرائض الدينية، فهو عدم وجودها بنفس الدرجة والفاعلية في مجتمعات عربية
وإسلامية أخرى، بالرغم من انتشار الظواهر الدينية فيها بكيفية قد تفوق انتشارها في
الجزائر قبيل الثورة وفي أثنائها وبعدها.
فكم نعرف من أشخاص في مجتمعنا يرتكبون معاصي كثيرة من الوجهة الدينية
(...)، ولكنهم لا يجرؤون على نقض عهد أو خلف وعد، أو احتقار صغير، أو تملق كبير، أو
خذلان رفيق، أو خيانة صديق!!
لقد تبنى مجتمعنا هذه القيم واتخذ منها معايير لتقويم الأفراد،
فيقال: فلان كريم، وفلان شجاع، فلان حليم، فلان وفي، فلان وطني، ويكفي أن تتوفر
لدى الفرد مجموعة من هذه الصفات الحميدة، كي يكون محبوبا ومحترما لدى غالبية أفراد
الشعب، حتى ولو لم يكن يؤدي كل الشعائر الدينية، وإن كانت تأديتها تزيد من قيمة
الشخص في نظر الجميع، ولا تنقصها أبدا.
وعندما جاءت الثورة الخالدة الصادقة مجسدة بمبادئها وأعمالها لأسمى
صور هذه المعايير والقيم الدينية والأخلاقية، التي كانت بحق أسمى صور المثل الأعلى
الأخلاقي الذي يمكن أن يتحقق في مجتمع إنساني معاصر، فكان لها قوة جذب شديدة
لالتفاف الشباب من حولها، حيث ظل الالتحاق بصفوفها عنوان شرف يجبُّ كل ما يمكن أن
يكون للفرد من عيوب سابقة، فكانت الثورة للبعض منهم (فضلا عن الدوافع والعوامل
النفسية والدينية والوطنية السابقة)، هي عملية اكتمال أخلاقي وتتويج للشخصية،
وللبعض الآخر عملية تعويض وتغطية لما كان يشوب سلوكهم أو سمعتهم من نقائص وعيوب
(...)، غير أن الثورة في جميع الأحوال كانت أكبر وأفضل مصنع لإنتاج الرجال والأبطال
والقادة والشهداء، وأصدق محك لاختبار العزائم والقدرات وفضائل الطبائع والسجايا
والصفات!
خامسا ـ العامل الاجتماعي:
إن الظروف الاجتماعية الصعبة التي كان يعيشها الشباب الجزائري، قبيل
اندلاع الثورة بين حرمان وفقر وأمية جعلت أبواب المستقبل أمامهم مسدودة، ووسائل
العيش الكريم مفقودة، مما لم يترك أمامهم أي خيار سوى الانتقام من الاستعمار
بالارتماء في أحضان الثورة المباركة، التي دخلت كل قرية ومدينة وفتحت ذراعيها لكل
شاب وطني، دون أي شرط لشهادة علمية أو مهنية أو سوابق عدلية سوى الإيمان بالمبدأ
والإخلاص في العمل، فحلت الثورة بذلك في نفوس الشباب محل المنقذ من الضياع، فوجد
فيها خير مفجر لتوتراته، وانتقامه من واقعه المر الذي كرسه ظلم العدو لشعبه
بحرمانه من خيرات أرضه، أمام سمعه وبصره!
وقد ساعد على ذلك أيضا عدم التزام الشباب بالمسؤولية العائلية، حيث إن
الغالبية العظمى منهم لم يكونوا متزوجين، ومن ثم لا تترتب على انضمامهم إلى صفوف
الجهاد أي نتائج عاطفية على أنفسهم أو عبئية على الثورة بالتكفل بأبنائهم، أو
أزواجهم، (مع الإشارة إلى أن هذه العوامل كلها نذكرها هنا على سبيل الإجمال
والعموم، دون أن يعني ذلك عدم وجود استثناءات كثيرة عرفتها السنوات العجاف، التي
تشمل زبدة الأمة من كل الأطراف).
كما أن حياة البؤس والشقاء التي كان يعيشها معظم أفراد الشعب
الجزائري في المدن، وبصفة خاصة في الأرياف، لم تكن لتختلف بكثير عما قد يعانونه في
صفوف الجهاد، فكان الالتحاق بالثورة بالنسبة للكثير من الشبان، هو عملية انتقال من
حالة حرمان وعذاب مفروض عليهم بقوة القهر الاستعماري إلى حالة عذاب وحرمان هادف،
ومرغوب فيه باعتباره مفتاح الأمل في التغيير بعد التحرير.
فكانوا بذلك مهيئين في عمومهم تطبعيا، واجتماعيا، ونفسيا إلى تحمل
مشاق الثورة وحرمانها وأخطارها الفائقة، فأقبلوا على صفوفها بكل استعداد وعزيمة،
فكانوا أقوى دعم ومدد لها على طول سنواتها العجاف الشداد، ويشهد التاريخ أن نسبة
الشباب في صفوف ثورة الجهاد كانت تفوق الثلثين، إذا حددنا هذه المرحلة بما دون
الثلاثين سنة.
ولا أدل على ذلك من أن معظم الشهداء من قادة الثورة الكبار، كان معدل
العمر لديهم يتراوح ما بين 20 ـ 34 سنة، باستثناء الشهيد الأكبر مصطفى بن بولعيد
الذي ولد سنة 1917، أما البقية فكلهم من مواليد العشرينيات والثلاثينيات:
1 - رمضان عبان: 1920
2 - يوسف زيغود: 1921
3 - بوجمعة سويداني: 1922
4 - العربي بن مهيدي: 1923
5 - الحــواس: 1924
6 - عميروش : 1926
7 - أحمد زبانة: 1926
8 - أحمد بوڤرة: 1926
9 - مراد ديدرش: 1927
10 - رمضان بن عبد المالك: 1928
11 - لطفي: 1934