نمر في منطقتنا العربية خلال هذة المراحل الانتقالية بفترة تاريخية ترمي بظلالها التشابهية مع الحقبة التاريخية التي مرت بها أوروبا في القرون الوسطى.
والسؤال: هل نستفيد من دروس التاريخ المقارن وعلومه الإنسانية وننظر بعين المنقب والباحث لنتائج تجارب شعوب وأمم؟
والسؤال الأهم هنا:
من يقر مبادئ التسامح أولا؟!!!
فيمكن... تعميم فكرة كتاب (رسالة في التسامح) لجون لوك على الخطاب الديني في منطقتنا ككل، واعتقد أنه من الضرورات الملحة جدا لتأطير هذه التجربة الإنسانية التاريخية.
فوجئنا بعد سقوط الدولة البوليسية (مؤقتا) وانكسار الشرطة، أن البعض توهم أن الثورة نجحت بمجرد انكسار الشرطة، وكان هذا الانكسار في العقل الجمعي للثوار يمثل غاية الانتصار والخلاص. وبعدها إفترق كل أصحاب يناير؛ ولم يجمعهم حتى الانتصار اللحظي بل كسرتهم الفرقة وأنفرط العقد.
وهنا برزت قوة السلاح مقابل وهن الأفكار والمبادئ، وبدلا من أن يجتمع كل أصحاب المبادئ والمؤمنون حقا بالحريات الأساسية لصياغة ميثاق مبادئ ينايري توافقي؛ كانت الفرقة والاجهاض لجنين لم يكتمل نموه بعد.
وللأسف راح البعض يصفق لقوة السلاح التى توهم البعض أنها قادرة على التقاط حبات العقد المنفرط، وأنها الوحيدة القادرة بقوة السلاح على إعادة الجميع لطريق الديمقراطية تلك. وقد حلم "البلهاء" وتوهموا أن قوة السلاح تلك قد تنشئ حريات، أو حتى يمكن أن تنشئ حلولا توافقية تصالحية تصلح للملمة حبات العقد وتضميد جراح الوطن؛ وحتى صدق البلهاء أنفسهم وصدقهم الكثيرون من شركائهم في إقتسام المغانم والمصالح.
وبالطبع لم تكن تلك المبررات سوى أكذوبة زائفة مضللة، فمن يستطيع إرغام الفائز بقوة السلاح والضربة القاضية أن يتقاسم مع آخرين غنائم المعركة؟!
قوة السلاح لن تتقاسم مع أحد ولن تتوافق سوى مع من يخضع لها ويرضى بطائفية اللعبة، التي تستحضر الأزهر وتستحضر الكنيسة والكل تحت السيطرة ؛ وحتى لو تفسخ المجتمع وتمزقت أوصاله، فتلك هي قواعد اللعبة!
وهنا يتمزق النسيج الوطني وتتحلل المفاهيم الوطنية لتحل محلها قبلية مؤسسية، ويعود كل فصيل
مؤسسي لمؤسسته الراعية، ويتحلل مفهوم المواطن والمواطنة لتحل قبلية المؤسسة، ويعود المحظور محظورا؛ ويصبح المواطن المؤسسي والتنظيمي مقابل المواطن الطبيعي لدولة وطنية.
ونحن بصدد استنساخ نموذج لنمط المواطن الطائفي المؤسسي؛ علينا الوقوف مع هذا النموذج المنقوص والذى غالبا ما يتسم بعدم التسامح مع النفس أو مع الغير والذى يؤدى تأصيله حتما لكبوة إنسانية ومجتمعية غير محدودة المضار؛ كقنبلة عنقودية قابلة للانفجار فى كل مكان وزمان. ولذلك وجب على كل من يدرك تداعيات استنساخ هذا النموذج أن يدعو لمعالجة مبادئية إنسانية قد ترجئ ساعات الانفجار ،وقد تساهم في ترميم شراكة وجروح النفوس الآيله للسقوط.
ويعد كتاب "رسالة فى التسامح" من الكتب المهمة لتوضيح الفكر الديني المسيحي دون تعصب أو انحياز. فهو يتناول قضية "التسامح" من بعدين أساسين هما: بعد تاريخي، وبعد أيديولوجي. ولا يتسنى لنا فهم حقائق ودلالات هذا المصطلح حتى نتعرف على المعنى اللغوي له. فبعد الصراع بين الكاثوليكية، وبين الذين تمردوا على مفاهيم الكنيسة الضيقة، (التي كانت تتحكم فى الحياة الثقافية والفكرية منذ العصور الوسطى، وحتى القرن الخامس عشر على الأقل)، نتج عن هذا الخلاف مجموعة رفعت شعار "التسامح" لحل هذه المشكلات، وبذلك تكون قد خرجت من الجلد الديني الضيق، إلى رحابة الحوار الثقافي والسياسي الذي نجم عن التطورات التاريخية الموضوعية التي حدثت فى بلدان أوربا الغربية، فى هذه الفترة، حيث بدأت تتسرب إلى أوربا موجات من الفكر الأرسطي عبر الترجمات العربية التي وضعها الفلاسفة المسلمون، وعلى رأسهم ابن رشد، حيث تغير الاتجاه الأوروبي على أسس عقلانية.
وتبقى قاعدة التسامح القادرة على ترميم بناء نموذج مواطن قابل للشراكة المتكافئة فى بيئة دولة لا بيئة نظام بعيدا عن مأسسة المواطن وطائفية قياداته. بمعنى أن ذبول "موقف" عدم التسامح الذي ميز العصور الوسطى صار "التسامح" بعده آلية إجتماعية/ ثقافية ضرورية لبقاء المجتمعات الأوربية وتطورها منذ عصر النهضة. ويتناول الكتاب فكر جون لوك عن التسامح وهو يرى أن الغاية من نقد التسامح هو أن يكشف عن "الوهم" الكامن فى الأنظمة السياسية التي تزعم أنها تتسم بالتسامح، وهي ليست كذلك.
وفى النهاية يمكن أن نقول أن كلاً من الكنيسة والدولة إذا اقتنع كل منهما بالبقاء فى داخل حدوده – الدولة ترعى الرفاهية الدنيوية، والكنيسة تشغل بخلاص النفوس- فإنه من المستحيل أن يحدث بينهما شقاق، وبالتالي يكون قد تحقق مفهوم التسامح على المستويات المتدرجة داخل المجتمع.