في ظل الأزمة الخانقة التي ارتبطت بالحالة الانقلابية التي تعيشها
مصر، وفي ظل هذه الظروف الحالكة التي امتهنت كل القواعد والثوابت للجماعة الوطنية، وفي ظل مجتمع الانقسام والاستقطاب الذي نعيش أقبح صوره وحالاته، وضمن بيئة قمعية استبدادية فاشية تقوم على تحكم مؤسسات القوة التي تقود ثورة مضادة، للحفاظ على مصالحها، لتمكين شبكات الفساد ومؤسسات الاستبداد؛ كان لشخصية وطنية معروفة يشار إليها بالبنان ،لا يستطيع كائن من كان أن يشكك في رصيدها الوطني والسياسي، هذه الشخصية وجدت لزاما عليها أن تدعو بعض الوجوه الموصوفة "بالمدنية" في محاولة لإدارة
حوار هدفه استشراف مستقبل مصر المجتمعي والسياسي، والخروج من محنة وطن.
هذه الشخصية الوطنية، شاركت في كثير من الأحداث السياسية قبل إسقاط مبارك المخلوع، متابعا الفسدة من ذوي النفوذ والسلطة، مؤمنا أن موارد مصر يجب أن تكون لأهلها، وعبّر بذلك عن طاقة الأمل التي تنفتح بإلحاحه لنيل أحكام تعيد الحق لأصحابه، وتمكن للعدل ليكون فى نصابه ومقامه، وقدّم بهذه الممارسة شكلا جديدا في المعارضة يزرع الوعي في عقول كافة المصريين بمواردهم وأهميتها، وبحقوقهم وإمكانات نيلها واستدامتها، قدّم نموذجا ـ وهو دارس للحقوق ـ عن كيفية نيل الحقوق لا الفردية وحسب؛ ولكن الحقوق الجماعية التي تتعلق بالمصالح المجتمعية العليا والأمن الإنساني القومي للمواطن والوطن، فى عبارة جامعة "كرامة المواطن محل عمله واجتهاده، ومكانة الوطن موضع كفاحه واهتمامه".
رأى أنه من الأهمية عقد ذلك الاجتماع ليتعرف عن قرب ومن خلال الحوار على حالة المجتمع وشبكة علاقاته الاجتماعية والسياسية، وإمكانات الالتئام والاصطفاف، مؤملا أن القوى والوجوه التي شاركته من قبل في همومه، وقدرت دوره وثمنت أسلوبه في استرداد الحقوق لوطنه ومواطنيه، ربما رأى أن مجرد اللقاء يمكن أن يفتح العقول، ويؤلف القلوب، ويرصد التحديات، ويواجه كافة المشكلات التي يعيشها الوطن مزمنة كانت أو طارئة؛ دعاهم في بيته الذي استقبلهم فيه وغيرهم من قبل، أراد بذلك أن يستحضر ويستدعي كل ما من شأنه أن يعيد لهؤلاء أجواء ثورة الخامس والعشرين من يناير، خاصة أنه ـ بعين البصير ـ يرى ما يمكن أن يؤول إليه حال الدولة والمجتمع والمواطن من اختلال وخراب، وما يمكن أن ينقسم فيه هذا الشعب إلى شعوب وطوائف، أو يتفتت هذا الوطن إلى قوى وشراذم، أو تبدد موارد الوطن، فتهدر إمكاناته، وتضيع طاقاته، ويأمل أن لا مخرج للوطن من وضع الأزمة إلا أن تجتمع العقول والقلوب والإرادات على عمل حقيقي يخرج هذا الوطن من محنته.
من هذا الإدراك البصير والعمل الكبير والشأن الخطير، كان هذا الجمع يطرح عليهم الأسئلة الكبيرة حينا، ويطرحون الأسئلة الكثيرة أحيانا، ولكنه صُدم بهذه الوجوه "
المدنية"، وتيقن من زيفها، واستقر في وجدانه أن هؤلاء الذين عاشوا في يوم من الأيام معه هموم الوطن واستقلاله وحرياته، لم يعد يهمهم كثيرا شأن الوطن أو لحمته وتماسكه أو جماعته الوطنية أو مستقبله السياسي والمجتمعي المأمول، الذي فجرته ثورة يناير في شعار واضح، لا لبس فيه من عيش كريم وحرية أساسية وكرامة إنسانية واستراتيجية للعدالة الوطنية والاجتماعية، اصطدم الرجل بعقول لا تنظر إلا تحت أقدامها وتتعامل مع محنة الوطن بأنها أحرزت نصرا مؤزرا على طريقة نهاية التاريخ لغريمهم الذي يتمثل في "جماعة الإخوان" والإسلام السياسي، وبالجملة المشروع الإسلامي.
قدمت هذه الشخصية الوطنية المرموقة أطروحات حول الأزمة، فقالوا ومنذ البدايةإن الوطن ليس في أزمة أو محنة، وردد هؤلاء كل المفردات التي تتعلق بضرورة القضاء على قوى الإخوان، وكل من يتعاطف معهم، ولا بأس بلغة التجييش التي تتهم كل هؤلاء بالإرهاب وبالعنف، وحينما لفتت أنظارهم إلى أنهم فعلوا ما فعلوا، وقد أتوا بالعسكر إلى سدة الحكم، وكانوا قد نعوا من قبل على الإخوان ما أسموه بالصفقات مع العسكر، رغم أن ما فعلوه يمثل أضعافا مضاعفة لما فعله الإخوان، ومؤكدا لهم أن نفوذهم "المزعوم" والمؤقت ليس إلا نتاج انقلاب عسكري استدعوه، بل واستعدوه، وجعلوه واجهة لمطالبهم التي أتت بالعسكر إلى واجهة الحكم فى مصر بطريقة مباشرة.
واستمع منهم إلى كلام يندى له الجبين، فلم يجد منهم إلا مفردات صناعة الكراهية، حتى أنهم بكراهيتهم وحقدهم على فصيل بعينه، طغت الوجدانيات على العقول، بل تيقن من أنهم يكرهون الإخوان أكثر مما يحبون الوطن، وما يقدمونه لمواجهة تحديات كيان الجماعة الوطنية وتماسكها، أكثر من هذا؛ فحينما تحدث عن المستقبل في ظل خطة أمنية تشكلها دولة قمعية بوليسية، قالوا إن ذلك أفضل لهم كثيرا من الإخوان، ومن التعامل معهم، فبدت المدنية زيفا وغطاء حاجبا لمفاهيم عن الديمقراطية، وبعضهم اجتر من ذاكرته الرضا بالاستبداد من أجل الاستقلال، وينسى أو يتناسى أننا في حقيقة الأمر لم نحصل على جوهر الاستقلال، واستأسد علينا الاستبداد، وانتشار الفساد، وهم في هذه المرة يرضون بالاستبداد، وبقيادة العسكر؛ للحصول على استقلال "متوهم"، ويمكنون لاستبداد "محقق"، إنهم في هذا قد حققوا انتصارا بلا تنافس، وأنجزوا نهاية للتاريخ، وكأنه سيستمر وتقف حركته عند مشهد سلطانهم واستدعائهم للعسكر، المهم أنهم تخلصوا من الإخوان بأي شكل كان، حتى ولو كان بقتل النفس، أوبإهدار حقوق الإنسان، وأحدهم آثر أن يمسك العصا من منتصفها، يحاول من كل طريق أن يؤكد أنه ليس بإمكاننا إلا القبول بأمر واقع، ما له من دافع ،وليس لنا من مساحة إلا تحسين الشروط.
تخيل هؤلاء وعلى طريقة "جحا"، أن النار بعيدة عنهم، وهم لا يعرفون أنهم اليوم حينما يقدمون كل مساندة لاستئصال فصيل، لن يكون إلا مقدمة لاستئصال السياسة ذاتها، وكل من يمثلها، وكل من أسهم فى ثورة يناير، ولو بشطر كلمة، وأن مايرونه الآن ليس المشهد الأخير. كل تلك المفردات والمواقف رصدتها تلك الشخصية الوطنية بما طفحت ألسنة الشخصيات المسماة بالمدنية، وفضحت مكنوناتهم بمفردات صناعة الكراهية وزراعة الانقسام، وتمكين فيروس الاستقطاب وتكريس الفرقة والتنازع، فضربت مشروع الجماعة الوطنية في مقتل، ووضعت مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية في دائرة الشك والخطر، وهو ما أكد "أن هؤلاء يكرهون الإخوان أكثر مما يحبون الوطن" ، فهل يمكن لذلك أن يبنى وطنا؟ ، يا أهل مصر "لا يبنى وطن على تنازع أو عطن".