تقرأ على صفحة وجهه تاريخ
مصر على امتداد سبعة وثمانين عاما هي عمر جماعة
الإخوان المسلمين ( 1928م – 2015م ).. تاريخ من نوع خاص حافل بالكفاح والمعاناة والصمود الأسطوري.. تاريخ لطالما سعى الاستعمار القديم والحديث عبر أذنابه محوه وتشويهه ووصمه بكل نقيصة وجريمة لأنه يمثل ملحمة كفاح ضد احتلالهم لبلادنا وغرس مشروعهم البغيض في كل شبر منها.
تقرأ في نظرات عينيه ثقة عميقة بالله عز وجل وتلمح في ثغره ابتسامة الرضا مع مواصلة النضال بعزم لا يلين حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.. ذلك المعدن الفريد من الرجال الذي تربى في مدرسة الإخوان المسلمين قرر منذ صباه تقديم حياته فداء لتحرير بلاده من الاستعمار وأذنابه، ولم يتوقف عن الكفاح حتى بلغ من الكبر عتيا خلف قضبان الطغاة.
شاهد رئيس على أحداث كبرى ومحورية داخل الجماعة بصفته أحد الذين عايشوها.
هو الأستاذ محمد مهدي عثمان عاكف المولود في21 يوليو 1928م في قرية كفر عوض السنيطة مركز أجا ـ دقهلية بدأ تعليمه بالمنصورة وعندما التحق بالجامعة انتقل إلى القاهرة مع والديه وإخوته ( عشرة من الإخوة والأخوات )، وكان ذلك عام 1940م وهي السنة التي عرف فيها جماعة الإخوان المسلمين..
أربعة وسبعون عاما قضاها مع تلك الجماعة المباركة ظل خلالها في مقدمة الصفوف قريبا من مؤسسها الإمام البنا ثم المرشدين الخمسة الذين سبقوه.. ثم المرشد السابع الذي تلاه الدكتور محمد بديع ، شارك خلالها في مواقف وأحداث مهمة ومحورية وعاش عهودا مختلفة من عهد الملكية حتى اليوم.
شارك في الإعداد لعمليات الجهاد في فلسطين وأشرف على معسكرات الجهاد ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر واحتك بقادة ثورة يوليو وكان له معهم تجربة ثرية.
التقيته عام 2004م عقب اختياره مرشدا عاما للإخوان المسلمين في حوار صحفي امتد لست ساعات عن قصته مع الإخوان وتاريخه في النضال الوطني.
تذكرت ذلك اللقاء بينما الرجل يصارع المرض خلف قضبان الطغاة دون أن يذكره إعلام العار بكلمة، وإن ذكر فللتضليل والكذب والبهتان، ولم تتذكره منظمات حقوق الإنسان المحلية أو الدولية ولم يلتفت إليه بالطبع الإعلام العالمي ولا بيانات البيت الأبيض التي تخرج أسرع من الصاروخ من أجل الصهاينة وعبدة الشيطان.
تذكرت ذلك اللقاء وكان من أبسط حقوق الرجل على أي قلم حر الكتابة عنه والتذكير بقضيته التي تمثل عنوانا لأبشع جريمة في حق الإنسان ضحيتها أكثر من أربعين الف معتقل من خيرة أبناء مصر يتقدمهم قادة الإخوان وبينهم رجال كبار وأطفال صغار ونساء وشباب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أتوقف فقط عند فصل واحد من حياته - كما حكاه لي – وهو كفاحه ضد الاحتلال الإنجليزي، فقد كان من قادة الاحتجاج ضد الاحتلال الإنجليزي منذ كان طالبا في المرحلة الثانوية.
يقول عن تلك المرحلة : " في سن الثانية عشرة من عمري تعرفت على دعوة الإخوان وكان للإخوان يومها نشاطا ضخما في المدارس.. وبمجيء وزارة صدقي باشا سنة 1947م سعى لعقد معاهدة مع الإنجليز، فتفجرت المظاهرات الضخمة في أنحاء (مصر) بقيادة الإخوان، وكانوا يقبضون علينا ويضعوننا في الأقسام، وقد وضعوني في قسم «الوايلي» بالقاهرة، وصدر قرار بفصلي من جميع المدارس الأميرية في أنحاء القطر المصري ، وأصر صدقي باشا - علي الرغم من صداقته لوالدي - على ألا أبقى بالقاهرة، مقابل الإفراج عني، فأخذني والدي ـ يرحمه الله ـ وعدنا إلى البلد، ومكثت هناك حتى سقطت حكومة صدقي باشا في مارس 1947 م.
وعن كفاحه ضد الاحتلال الإنجليزي يتساءل: "هل يتصور أحد أنه في عام 1951م كنا نقيم معسكرات في قلب الجامعة وندرب الطلاب بالذخيرة الحية على مقاومة الاحتلال؟! وقد كان كل أساتذة الجامعة يرحبون بما نقوم به أملا في تحرير مصر من الإنجليز.. الذين تركوا القاهرة نهائياً تحت ضغط المظاهرات الحاشدة وتمركزوا في منطقة قناة السويس.
يومها تحملت الجامعة المسؤولية لأن الإدارة كانت وطنية والسلطات تغاضت تماما. وقد أقمنا تلك المعسكرات لأننا أردنا أن نكون عمليين أكثر في مقاومة الاحتلال ، وكنت يومها قائدا لمعسكر جامعة إبراهيم (عين شمس حالياً).
وسأسرد لك قصة تبين مدى رجولة رجال الجامعة آنذاك مع الطلبة.. فقد وضعنا بعض الأهداف للمعسكرات، وكان منها : محو الأمية العسكرية لدى الشعب المصري المحتلة أرضه.. وكان لا يقوى على الصمود ومواصلة التدريب إلا القليل، وهم الذين كانوا يذهبون للقتال في القناة ضد الاحتلال الإنجليزي ، ولكن التدريب كان مفتوحاً ومتاحاً للكل، وظهر من شباب الجامعة، رجال من غير الإخوان أعتز بهم حتى الآن، بل ومن النصارى، فقد كان معنا أحد النصارى الميسورين، وكانت لديه سيارة فخمة، وكان يصر على أن يقود لي هذه السيارة بنفسه..
كما أن سيدة ميسورة (اسمها قوت الدمرداشية) ـ صاحبة مستشفى الدمرداش الذي تحول بعد ذلك إلى كلية للطب ـ أرسلت لي سيارة، وكنت معروفاً جداً آنذاك.. ولما جاء ابنها ـ وكان طالباً بكلية الطب ـ وقال لي: هذه السيارة هدية لك، قلت: أما لي فلا، وأما للمعسكر فنعم، فردت علي والدته قائلة: لاستعمالك الشخصي في المعسكر ، فقلت: وهو كذلك، وبعد نهاية المعسكر أعدتها اليهم مع خطاب شكر.
وكان يرأس جامعة إبراهيم (عين شمس حالياً) أستاذ جليل، هو د. محمد كامل حسين، كبير جراحي العظام في الوطن العربي، وكان يشاركنا جهادنا، وقد أرسل لي عميد كلية الحقوق د. عثمان خليل وكنت طالباً بها ـ بعد أن أنهيت الدراسة في كلية التربية الرياضية - وقال لي: يا عاكف.. مدير (رئيس) الجامعة يريد تنظيم حفل افتتاح للمعسكر حتى يحضر، فقلت له: أنت رجل قانوني، ونحن في هذا المعسكر داخل حرم الجامعة نعد ناسا خارجين على القانون (وكان أحد لا يستطيع دخول المعسكر..
لا احتلال ولا أمن ولا غيره، كما يحدث الآن) فإن كنتم تريدون أن تشاركونا في المسؤولية فمرحباً.. ثم أرسل لي رئيس الجامعة مرة أخرى عميد كلية الهندسة ثم قائد حرس الجامعة بنفس الرسالة ، ثم أرسل لي رسالة بالحضور فذهبت إليه، وكان رجلاً محترماً فقال لي: إنه لشرف عظيم ـ يا بني ـ أن أشارككم جهادكم.
فهل تجد مثل ذلك الآن؟
وعن موقف الشيوعيين يضيف الأستاذ عاكف قائلا :الشيوعيون على امتداد تاريخهم مستغلون ومنتهزون للفرص..ففي ذلك الوقت كانت هناك انتخابات لاتحاد طلاب الجامعة ، فجاءني بعض الإخوة وقالوا: الشيوعيون وزعوا منشورا علي نطاق واسع داخل الجامعةً.. بعنوان: أين السلاح يا عاكف؟ فقلت لهم: أعلنوا عن عقد مؤتمر وأنا قادم، وانتظرت الجامعة كلها محمد عاكف.. وكانت الجامعة قبل الثورة قد حددت 6 من الأساتذة للإشراف على إنفاق المعسكر.. وقد وجه لي هؤلاء الأساتذة في نهاية المعسكر خطاب شكر، وكان رئيس الجامعة محمد كامل حسين يقول لي: «لم أجد آمن منكم»، ولم يكن أحد غيره عنده ملف المعسكر بالكامل، وكان يعرف ماذا اشترينا وماذا فعلنا.
المهم.. ذهبت إلى المؤتمر ومعي خطاب الشكر من الأساتذة وقلت في كلمتي: يؤسفني أن يكون هذا المعسكر الضخم الذي تم تنظيمه لمقاومة المحتل مثار تهكم، ومجالاً للتكسب الحقير والدعاية الرخيصة من بعض الأحزاب التي لم تشترك فيه، ليشوهوا هذه الحركة المباركة الضخمة.. ويكفي أن الأستاذ فلان والأستاذ فلان ـ أساتذة كباراً ـ قدموا لي خطاب شكر، ثم أخرجت الخطاب وقرأته، فظلت الصالة تصفق حوالي 10 دقائق، وحصل الإخوان وقتها على 100% في الانتخابات وسقط الشيوعيون سقوطاً مدوياً.
ذلك جانب وطني مهم من حياة الرجل المليئة بالتضحيات الكبيرة .. لكن المكافأة من نظام مصر العسكري للأستاذ عاكف وأمثاله من الوطنيين الشرفاء كان التنكيل والسجن والتعليق علي أعواد المشانق وذلك عين ما يسعد به الكيان الصهيوني ..ويكفي انه سجين كل العصور في سبيل كلمة الحق والدعوة إلى الله ..
فقد سجنه عبد الناصر وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم للمؤبد يومها أشيع عنه أنه مات من شدة التعذيب ولكن الله كتب له الحياة علي يد " روبير " اليهودي الذي جمعه به السجن وكان يصب قطرات من الماء في فم الأستاذ عاكف حيث كان يصارع الموت.. يهودي سجين ضن بشربة ماء كاملة عليه لكنه تكرم بقطرات ماء كانت سببا في استمرار الحياة وتلك مشيئة الله وسبحان الذي يخرج الحي من الميت بقدرته .. وهل يلام " روبير " علي بخله وقد كاد بنو وطنه ودينه من العسكر يقتلوه عطشا .. واليوم يضنون عليه بالحرية ويضعونه في سجن شديد الحراسة يا لها من قلوب أشد سوادا من الليل الحالك!
في عهد مبارك تم سجن الرجل لمدة ثلاث سنوات إثر محاكمة عسكرية ضمن سلسلة محاكمات الإخوان العسكرية . واليوم يسجنه السيسي بتهم ظالمة ضمن عشرات الآلاف من خيرة أبناء مصر .. وبينما ينعم مبارك في أفخم المستشفيات بعد أن خرب مصر وأذل شعبها ثم نال البراءة في النهاية يقبع محمد مهدي عاكف الرجل التسعيني في زنزانة شديدة الحراسة في سجون مصر بين عشرات الآلاف من قادة الإخوان وشبابها والوطنيين الشرفاء الذين رفضوا الانقلاب ومازالوا وسيظلوا حتى الرمق الأخير دفاعا عن حرية بلادهم وطهارتها من الفساد والمفسدين.
إن كل معاني الشرف والإباء تقف احتراما لهذا الرجل ولكل من معه وسيعلم المغيبون يوما أن هؤلاء قدموا ويقدمون وسيقدموا أغلى ما يملكون (حياتهم) لتحيا تلك الأمة عزيزة كريمة بإذن الله سبحانه وتعالى. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .