تقلَّص حجم
التغطية الإعلامية للأحداث الدائرة في
سوريا مؤخراً، بل إن ما يصل إلى وسائل الإعلام المختلفة عبر مراسليها هو الجزء اليسير مما يجري، بينما القسم الأكبر منها يبقى بعيداً عن الأضواء.
ويعود الأمر لعوامل مختلفة، أهمها سيطرة قوى مختلفة فكرياً، وسلوكياً، ومتعددة التوجهات سياسياً، على المد الجغرافي السوري، والأهم أن كثيراً من هذه القوى ليست في حالة وئام بعضها مع بعض.
لقد غدا المراسل أو الصحفي السوري الموجود في الداخل في وضع خطير جسدياً أولاً، وفي وضع لا يسمح له بالتغطية الحقيقية لما يصادفه من أحداث ثانياً، بل نجده مضطراً بشكل دائم للقيام بتغطية إخبارية يضمن من خلالها استمراره، وبالتالي سيكون نهجه الإخباري متوافقاً تماماً مع ما ترغب به الجهة المسيطرة على المنطقة التي يعمل بها.
فالمؤسسات الإعلامية العربية الكبرى تنشر مراسليها في مناطق تتوافق القوى المسيطرة العسكرية مع الرؤية السياسية والإعلامية لهذه المؤسسات الإعلامية، وحتى إن المراسل بدأ يضطر لنقل الخبر الذي لا يؤثر على سلامته ومن ثم لا يؤثر على عمله الصحفي. فأي جهة عسكرية تستطيع منع الصحفي من التغطية ونقل الأخبار من مناطقها إن لم يناسبها الأسلوب الذي يتم به نقل الخبر، أو تجاوز المراسل الخطوط الحمراء التي وضعت له من قبلها، ليقع المراسل السوري بين خطوط حمراء كثيرة، آخرها الخطوط التي تضعها له الجهة الإعلامية التي يعمل لصالحها.
محمد الإدلبي، مراسل لإحدى الشبكات الإخبارية المحلية، منع عدة مرات من التصوير داخل مطار تفتناز المحرر، الذي تسيطر عليه قوى مختلفة.
يقول محمد لـ"عربي21": "لقد ذهبت ثلاث مرات إلى مطار تفتناز المحرر لأقوم بتصوير بعض المشاهد واللقطات لصالح الشبكة التي أعمل فيها، وفي كل مرة كنت أحصل على موافقة من جهة موجودة داخل المطار، إلا أنني وعندما أصل تمنعني جهة أخرى من التصوير، ويخبرني أحد قادتها أن من منحني الإذن ليس مخولاً بذلك أصلاً، فأعود أدراجي دون القيام بذلك".
أما المراسل عمران الإبراهيم، الذي يقوم بالتغطية الإخبارية في ريف حلب الشمالي، فيقول لـ"عربي21": "أقوم بتصوير المعارك والجبهات وكأنني أقوم بالسرقة، حيث إن هنالك قوى عسكرية لا أريد أن أذكر اسمها تمتلك مكاتب إعلامية تابعة لها، وترفض أن تسمح لأي إعلامي آخر بالتصوير، أو تتبع الأحداث عن كثب، عدا أولئك الإعلاميين الذين تربطهم بهذه الجهة علاقات جيدة منذ مدة طويلة".
ويضيف: "حدث عدة مرات أن ذهبت إلى أماكن ساخنة لنقل الحدث وتم طردي، والمؤسف أن من طردني ليس عسكرياً، بل هو إعلامي ثوري معروف في الريف الشمالي".
وينتقد الإبراهيم الوضع قائلاً: "إن كان من يقولون عن أنفسهم أنهم ثوار يمنعوننا من القيام بمهامنا الإعلامية، فلا عجب أن يقوم نظام بشار الأسد بمنع الإعلاميين من التغطية في مناطقه، وجلب وسائل إعلام تخصه وتؤيده، وتوجه دفة الإعلام بالجهة التي يرغب بها هو". وقال: "ذاك نظام استبدادي أقرَّ ديكتاتوريته العالم كله وهذا أمر طبيعي، أما في المناطق التي ندعي أنها تحررت فهذا غريب، أين الحرية التي تحدثنا عنها وتغنينا بها".
وبعض الصحفيين باتوا يغطون الأحداث في سوريا من الخارج. فلا غرابة مثلاً أن نرى مراسلاً ينقل لمؤسسته الإعلامية أخبار دير الزور والرقة، ليتبين فيما بعد أنه قد انتقل للعيش في مدينة غازي عنتاب التركية.
يقول هذا الصحفي لـ"عربي21: "لماذا أبقى في هذه المناطق، إن كنت سأضطر لمبايعة تنظيم الدولة، والعمل الإعلامي وفق ما يرى قادته". ويتابع مؤكداً: "ليس أمامي سوى حلين فقط: إما أن أبقى وأنقل الأخبار وفق رغبة التنظيم ورؤيته، وإما أن أغادر وأنقل الأخبار التي أستطيع الحصول عليها بوسائل أخرى عن بعد".
ويضيف: "بالمناسبة الحال متشابه في كل المناطق السورية، وليس فقط في مناطق سيطرة تنظيم الدولة، ففي المناطق التي تسيطر عليها قوات الحماية الكردية القريبة من مناطق التنظيم، نجد أن الأنباء كلها تكون مناسبة لسياسة قوات الحماية، والنتيجة أن لا إعلام حقيقي على الأرض السورية".
ورغم أن الاعتداءات ضد الصحفيين، قتلاً أو اعتقالاً، بدأت على يد النظام السوري، وما زال النظام المسؤول الأول عن حالات قتل الصحفيين والنشطاء الإعلاميين حتى الآن، إلا أنه مع تكرار حالات الخطف التي يتعرض لها الصحفيون الأجانب، فقد بات هؤلاء يمتنعون عن القدوم إلى المناطق المحررة في سوريا, كما اضطر غالبية الصحفيين السوريين لمغادرة هذه المناطق بسبب الحالة الأمنية، وخصوصاً في أعقاب حملة خطف وإعدام نفذها تنظيم الدولة في شمال سوريا العام الماضي.
ورغم أن سلامة الصحفيين هو الشغل الشاغل للمنظمات الإعلامية الدولية، إلا أن النتائج الملموسة لذلك باتت شبه معدومة، وغالباً لا نتائج، فصوت الرصاص هو الصوت الأقوى في الشارع السوري، والكلمة الحرة يدفع ثمنها من يكتبها، والثمن غالباً ليس غرامة مالية أو توبيخاً أو حتى اعتقالاً، الثمن أصبح في أيامنا هذه هو حياة الصحفي، فلا أسهل من ضغط الزناد في كل مناسبة أو دون مناسبة.