شهد شهر نوفمبر الأسود عددا متزايدا من حالات
التعذيب داخل أماكن الاحتجاز، فجاءت وقائع ثلاث حالات وفاة في أماكن متفرقة من محافظات
مصر، وأشهرها حالة تعذيب داخل قسم شرطة بندر في الأقصر، للمواطن والمجني عليه طلعت شبيب، ابن منطقة العوامدية، بائع ورق الباردي والأب لأربعة من الأطفال، على خلفية القبض عليه بتهمة حيازة أقراص مخدرة، حيث أثبت تقرير الطب الشرعي أن شبيب تعرض للضرب والتعذيب، ما تسبب في قطع الحبل الشوكي والوفاة.
وفى خطوة لتبييض الوجه، أصدرت نيابة الأقصر بداية قرارا بحبس خمسة أمناء شرطة أربعة أيام على ذمة التحقيق، بتهمة الاشتراك في التعدي بالضرب المفضي للموت. وجاء هذا القرار بعد ورود تقرير الطب الشرعي بشأن معاينة جثة المجني عليه، والذي أثبت تعرضه لضربة في العنق والظهر أدت إلى كسر في الفقرات، ما نتج عنه قطع في الحبل الشوكي أدى إلى وفاته. وبعد الاستماع لأقوال أمناء الشرطة أمر المحامي العام لنيابات الأقصر بإخلاء سبيل أمناء الشرطة وحبس أربعة ضباط شرطة، وتوجيه ذات التهمة (الضرب المفضي إلى الموت).
وهنا يرصد البعض هذا الخبر على أنه دليل على إقرار مساءلة الجناة من جهاز الشرطة، ولكن من يتابع عن قرب الإشارات الأخرى؛ يدرك أنها لا تتعدى محاولة لحظية لتبييض وجه الداخلية التي لديها الضوء الأخضر منذ 3 يوليو للإفراط في استعمال العنف والتعذيب كمنهج انتقامي من المواطنين المصريين. ولا أوضح على ذلك النهج وتبريره من رسالة الشكر الموجهة لطلاب أكاديمية الشرطة من رأس النظام بعد قتل ثلاثة مواطنين مصريين في أماكن الاحتجاز - وكما يقول المصريون - وما زال دم الضحايا ساخنا، ولم يبرد حزن ذويهم بعد.
ولم تكن وزارة الداخلية بحاجة لمثل هذه الإشارة الصريحة والضمنية على الرضى السامي عن الممارسات القمعية؛ لأن الوزارة ومنذ أحداث جمعة الغضب هي في حالة غضب وثأر شخصي مع المجتمع، لم تتجاوزه ولم يتجاوز المجتمع كله تلك الذكرى ليتم تجاوز ممارسات الأفراد الفردية، كما يبررون لنمط ومنهج سواء أكان مباركا من القيادات العليا أو محل مناقشة من بعض القيادات التي حال وقوفها أو دعوتها للحظة عاقلة يتم اتهامها مباشرة بالأخونة أو اللبرلة أو غيرها من الفزاعات.
فمصر الفرعونية لم تتخل يوما عن التعذيب كنهج ومنهج متوارث، منذ أن كان الحاكم إلها أو شبه إله. وتتعاقب عليه (التعذيب) الأنظمة المصرية، ويزخر تاريخها المعاصر بقصص التعذيب التي طالت كل التيارات السياسية، بل والآن تتجاوز هذه الجرائم الفئات المستهدفة من خصوم سياسيين ونشطاء؛ إلى عموم فئات الشعب المصري، من البسطاء وغير المؤدلجين سياسيا، ووقائع تعذيب نوفمبر الأسود الأخيرة خير دليل على صحة هذا الأمر.
وبرغم مصادقة مصر على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 154 لسنة 1986، والذي تم نشره في الجريدة الرسمية في 7 يناير 1986 على أن يعمل به اعتبارا من 25 يونيو 1986، كما تم الالتزام به بموجب الدستور في المادة 52 منه، ولكن تلك الالتزامات لم تتعد كونها حبرا على ورق للترويج والديكور، وهي مكبلة فعليا من الناحية الواقعية والتشريعية.
ونلحظ أن النيابة العامة في توجيه الاتهامات السابق الإشارة إليها في حالة تعذيب الأقصر تلك، وجهت تهمة الاشتراك في الضرب المفضي للموت، في حين أن هذه الممارسات هي جرائم تعذيب ممنهجة وليست مجرد جرائم ضرب أفضى إلى الموت (ليست خناقة يشيع فيها الاتهام ولا مسؤولية جنائية أو سياسية).
وينبغي التعامل جديا بشأن البيئة التشريعية والنصوص القانونية الجادة، وهذا ما دفع المحامي والحقوقي نجاد البرعي ومجموعة من القانونيين والخبراء والمستشارين، ومنهم القاضيان هشام رؤوف وعاصم عبد الجبار، للعمل على صياغة قانون لمكافحة جرائم التعذيب في أماكن الاحتجاز، بما يتفق مع نصوص الدستور، ويتماشى مع المعايير الدولية، ويتوافق مع التوصيات التي أقرت مصر بقبولها أثناء جلسة الاستعراض الدوري الشامل لملفها الحقوقي أمام مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في نوفمبر 2014.
وعلى أثر ذلك، تعرض كل من الأستاذ نجاد البرعي والمستشار هشام رؤوف والمستشار عاصم عبد الجبار؛ للتحقيق بتهم فضفاضة ومبهمة، لتكميم أفواههم ووقف هذه المحاولة التي كانت ترمي لتأصيل تشريعي يعرف جريمة التعذيب، والمسؤولية الجنائية لمأمور القسم أو السجن عن تلك الجريمة، وغيرها من النصوص الهامة التي كان من الممكن أن تؤصل لإصلاح تشريعي يحد من ظاهرة التعذيب أو يكافح هذه الظاهرة.
ليست هناك أدنى إرادة سياسية لتحسين هذه البيئة الحاضنة للتعذيب، مع العلم أن التزاماتنا التعاهدية بموجب الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب تجعلنا أمام مسؤولية ومراجعة النظام الرقابي للاتفاقية، والذي نصت عليه المادة 17 من الاتفاقية بإنشاء لجنة مناهضة التعذيب. وهي تتألف من عشرة خبراء على مستوى عالمي تنتخبهم الدول الأطراف في الاتفاقية لمدة أربع سنوات. وتقدم الدول الأطراف في هذه الاتفاقية تقارير إلى اللجنة عن التدابير التي اتخذتها أو تتخذها في سبيل منع جريمة التعذيب، وغيرها من طرق المعاملة أو العقوبة القاسية أو غير الإنسانية، وذلك كل أربع سنوات. وترسل هذه التقارير إلى الأمين العام للأمم المتحدة؛ الذي يحيلها إلى هذه اللجنة لإبداء الرأي والملاحظات، وترد الدول على ذلك. ويمكن للجنة أن توفد أحد أعضائها إلى الدولة للتأكد من كل ما يتعلق بالممارسات لجرائم التعذيب، وللجنة حق تلقي شكاوى من دولة ضد دولة أخرى أو من فرد ضد دولة، بخصوص ممارستها للتعذيب، ما دامت الدولة المشكو في حقها قد قبلت هذا الاختصاص.
وجدير بالذكر أن نص المادة الثالثة من الاتفاقية تنص على أن تتخذ كل دولة طرف إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعالة، أو أية إجراءات لمنع أعمال التعذيب. ولا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية أيا كانت، سواء أكانت هذه الظروف حالة حرب أو تهديدا بالحرب أو عدمه.
التعذيب ليس فقط جريمة ضد الإنسان ويوصم النظام بعار وسمعة سيئة على المستويين الوطني والعالمي، ولكن تزايد هذه الجرائم بهستيريا وثأر انتقامي شبه يومي؛ يهدد المجتمع كله وسلمه الأهلي. وحالة الإنكار لتلك الجرائم التي لا يريد أن يخرج منها النظام، تضع العربة أمام القطار. ومع أننا ندرك ومن الوهلة الأولى إرادة النظام في أن تكون المعركة الوجودية له في محاربة الإرهاب المحتمل، ومع هذا التصور لإدارة المعركة الجهنمية، سيستحيل أن يتبنى العقلاء أو يُمكنوا من التفكير في سياسة استراتيجية حقيقية لمكافحة جريمة التعذيب في أماكن الاحتجاز. وكيف يتم تجفيف منابع الإرهاب الذي ينمو ويترعرع مع هذه البيئة التي تحط من قدر وكرامة الإنسان، وتهين يوميا حقه الأساسي في الحياة والسلامة الجسدية؟!!
انصراف الإرادة السياسية والمؤسسية لإقرار أدوات إدارة الصراع وقصرها على الحلول الأمنية، واستخدام كل الطرق القاسية وغير الإنسانية، يجعلنا أمام صراع مرير ومستمر يستنزف المجتمع والمؤسسات على حد سواء. وسيقتصر رد الفعل في كل مره تقع فيها تلك الجرائم على مجرد قرارات لحظية لتبييض الوجه.
التعذيب جريمة ممنهجة لا يمكن إنكارها جنائيا وسياسيا، وإقرار الإفلات من العقاب والإنكار هو وقود العنف الجهنمي الذي لا تحمد عقباه!!!