شهد مجلس النواب
المصري أولى دورات انعقاده في العاشر من هذا الشهر يناير 2015، وقد ألزمه الدستور بمناقشة مشروعات القوانين التي أصدرها رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انعقاده، وقد سابق مجلس النواب الزمن لإقرار 341 قرارا بقانون–في القلب منها القرارات بقوانين
الاقتصادية- في تلك الفترة الوجيزة، وبدت سياسة التسليم المطلق للموافقة على تلك القوانين من خلال مخاطبة علي عبد العال رئيس مجلس النواب للأعضاء بقوله "إن عدم الموافقة على أي قانون سيؤدي إلى التأثير على استقرار واقتصاد الدولة، المناقشة لن تؤدي إلى نتيجة، أمامنا مسؤولية تاريخية لإقرار كل القوانين".
ويكشف ما أصدره السيسي من قرارات بقوانين اقتصادية -ووافق عليها البرلمان في دقائق معدودات- عن مزيد من عسكرة الاقتصاد، وتجريف موارد البلاد، والانحياز للأغنياء على حساب الفقراء وتقنين للفساد، ففي 12/03/2014 (قبل انعقاد المؤتمر الاقتصادي بيوم واحد) قام السيسي بتعديل بعض أحكام قانون ضمانات وحوافز الاستثمار رقم 8 لسنة 1997، وقانون الضريبة على الدخل الصادر بالقانون رقم 91 لسنة 2005، وقانون الضريبة العامة على المبيعات الصادر بالقانون رقم 11 لسنة 1991، وقانون شركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم والشركات ذات المسئولية المحدودة الصادر بالقانون رقم 159 لسنة 1981 متخذا من الاستثمار الأجنبي غاية لا هدفا والتفريط في الموارد منهجا، حيث منحت تلك التعديلات لغير المصريين الحق في تملك الأراضي والعقارات بل وبالمجان أيضا، وسمحت للمستثمر الأجنبي بالدخول والخروج دون قيود بصورة قد تضيع معها حقوق الأطراف المرتبطة به وفي مقدمتها القوى العاملة، وأقرت انتفاء المساءلة الجنائية للمستثمرين وتابعيهم، وسمحت لمجلس الوزراء بمنح مميزات للشركات كثيفة الاستخدام للعمالة تتضمن الحصول على الطاقة بأسعار مخفضة وتحميل الدولة جزءا من تكاليف تدريب العاملين وتكاليف حصة العامل ورب العمل فى التأمينات لمدة محددة. كما نصت على تخفيض ضرائب المبيعات على الآلات والمعدات وإعادتها للمستثمرين مع تقديم أول إقرار ضريبي.
وفي أول يوليو 2014 أصدر السيسي قرارا بقانون بتعديل بعض أحكام قانون الضريبة على الدخل بمقتضاه تم فرض ضريبة بنسبة 10% على الأرباح الرأسمالية والتوزيعات النقدية بالبورصة، ومع ضغوط مافيا رجال الأعمال تراجع السيسي عن قراره وقام بتأجيل ضريبة الارباح الرأسمالية لمدة عامين مع استمرار ضريبة التوزيعات النقدية. وفي يوليو 2014 –أيضا- أصدر السيسي قرارا بقانون يحدد الحد الأقصي لأجور العاملين بالحكومة والقطاع العام بمبلغ 42 ألف جنيه شهريا، وهو ما يمثل 35 ضعفا من الحد الأدنى البالغ 1200 جنيه، وقد فرغ القانون من مضمونه بعد استثناء القضاء والشرطة والبنوك من الحد الأقصى وفي الوقت نفسه بات الحد الأدنى للأجور نسيا منسيا.
وفي يوليو 2015 أصدر السيسي قرارا بقانون تنظيم الكهرباء رقم 87 لسنة 2015، الذي حصر دور الدولة في جهاز تنظيم مرفق الكهرباء وحماية المستهلك كهيئة عامة مستقلة عن أطراف مرفق الكهرباء، تكون له الشخصية الاعتبارية. وأشار القانون إلى أن الجهاز يهدف إلي تنظيم ومراقبة ومتابعة وتطوير كل ما يتعلق بنشاط الكهرباء إنتاجا ونقلا وتوزيعا واستهلاكا، وإلى جذب وتشجيع الاستثمار في هذا المجال في إطار المنافسة الحرة المشروعة. وهذا يعني رفع يد الدولة عن الإدارة المباشرة لقطاع الكهرباء، وفتح الباب على مصراعيه لخصخصته، ومن ثم مزيد من بيع المواطنين للمستثمرين. وفي هذا الإطار أيضا أصدر السيسي من قبل (في أكتوبر 2014) قرارا بقانون بتعديل بعض أحكام القانون رقم 102 لسنة 1986، بإنشاء هيئة تنمية واستخدام الطاقة الجديدة والمُتجددة بهدف تمكين الهيئة - بعد موافقة وزير الكهرباء والطاقة المتجددة - من إنشاء شركات مساهمة بمفردها أو مع شركاء آخرين لجذب المستثمرين للدخول مع الهيئة فى مشروعات مشتركة لتشجيع إنتاج وبيع الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة.
ونحو مزيد من عسكرة الاقتصاد ومزاحمة القطاع الخاص التي باتت عنوان المرحلة بامتياز أصدر السيسي في شهر يوليو 2015 قرارا بقانون يُجيز لوزارتي الدفاع والداخلية والأجهزة التابعة لهما والمخابرات العامة تأسيس شركات حراسة المنشآت ونقل الأموال. وهو الأمر الذي يخرج الجيش والشرطة عن مهامهما الرئيسة من دفاع وأمن إلى عالم القطاع الخاص وتقديم تلك الخدمات بهدف الربحية وهو ما ينذر بتحويل الجيش والشرطة إلى وحدات من المرتزقة تحت اسم شركات الحراسة الخاصة.
وفي يوليو 2015 –أيضا- أصدر السيسي قرارا بقانون بالسماح لهيئة قناة السويس سلطة تأسيس شركات مساهمة، بمفردها ويسري على هذه الشركات قانون شركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم والشركات ذات المسؤولية المحدودة وذلك بما ? يتعارض مع طبيعتها، ويكون للجمعيات العمومية للشركات إصدار اللوائح المالية والإدارية العاملين بها بعد موافقة مجلس إدارة هيئة قناة السويس دون التقييد بأحكام قانون نظام العاملين بالقطاع العام، وذلك دون الإخلال بأي مزايا يتمتع بها العاملون بهذه الشركات، ويجوز تداول أسهم هذه الشركات بمجرد تأسيسها بعد موافقة مجلس الوزراء. وبذلك فتح هذا القانون الباب لبيع منطقة القناة للأجانب من خلال تداول أسهم تلك الشركات وشراء الأجانب لها. بل وصل الأمر إلى السماح للقوات المسلحة بتأسيس وإنشاء شركات بمفردها أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي، وهو الأمر الذي يخرج القوات المسلحة عن دورها في حماية الحدود ويطرد ما تبقي من القطاع الخاص بل ويحل محل قطاع الأعمال العام. حيث أصدر السيسي في ديسمبر 2015 قرارا بقانون رقم 446 لسنة 2015، بأن يتولى جهاز القوات المسلحة تجهيز مدن ومناطق عسكرية بديلة للمناطق التي يتم إخلاؤها، والقيام بجميع الخدمات والأنشطة التي من شأنها تنمية موارد جهاز القوات المسلحة، وله في سبيل ذلك تأسيس الشركات بكافة صورها، سواء بمفرده أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي.
وإذا كان طنطاوي إبان رئاسته للمجلس العسكري حرص على حماية فساد العسكر من خلال تعديل قانون القضاء العسكري في مايو 2011، بإضافة مادّة تعطي النيابة والقضاة العسكريين وحدهم الحق في التحقيق في الكسب غير المشروع لضباط الجيش، حتى لو بدأ التحقيق بعد تقاعد الضابط وتحوله للحياة المدنية فإن السيسي فتح الباب علي مصراعيه للفساد من خلال القرار بقانون رقم 97 لسنة 2015 في أغسطس 2015م بتعديل بعض احكام القانون رقم 62 لسنة 1975 فى شأن الكسب غير المشروع والذي أتاح التصالح مع الفاسدين برد ما تحصلوا عليه من كسب غير مشروع فى أية صورة كان عليها فى مرحلة التحقيق ، مع إنقضاء الدعوى الجنائية والتدابير التحفظية الناشئة عن أمر المنع.
ولم تقتصر الامتيازات لأعمدة الإنقلاب الجيش والشرطة والقضاء على ذلك بل امتدت القرارات لزيادة مرتباتهم ومعاشاتهم، بل والإعفاء الضريبي حيث أصدر السيسي في شهر أغسطس 2014م قرار بقانون بتعديل قانون الضريبة العقارية بمقتضاها أعفي من الضريبة أندية وفنادق القوات المسلحة ودور الأسلحة والمجمعات والمراكز الطبية والمستشفيات والعيادات العسكرية والعقارات المبنية في نطاقها وغيرها من الوحدات التي يصدر بتحديدها قرار من وزير الدفاع بالاتفاق مع الوزير المختص، واستثناها من الخضوع لأعمال لجان الحصر والتقدير باسم مقتضيات شؤون الدفاع ومتطلبات الأمن القومي رغم اعتراض قسم التشريع بمجلس الدولة على ذلك. وبمقتضى ذلك أصدر صدقي صبحي وزير الدفاع والإنتاج الحربي القرار رقم 68 لسنة 2015، في 3 يونيه 2015م بإعفاء 574 منشأة للجيش من الضريبة العقارية منها: 52 ناديا، و29 فندقا، و18 مصيفا، و8 دور سينما ومسارح، وعدد من دور القوات المسلحة، والساحات وفروع السوبر ماركت والمجازر الآلية، وكذلك العمارات والشقق والفيلات. كما تم استثناء سبع هيئات تابعة للقوات المسلحة والشرطة رغم نشاطها المدني والربحي من الالتزام بقانون ربط الموازنة الذى أصدره السيسي في مطلع يوليو 2015م الذي يفرض عليها توريد نسبة 25% من فوائضها المُرحلة لصالح الموازنة العامة، حيث صدر قرار رئيس الوزراء في الأول من أكتوبر 2015 باستثناء : جهاز الخدمات العامة بوزارة الدفاع، وصندوق مشروعات الأراضي بوزارة الداخلية، وصندوق تمويل المتاحف العسكرية، وجهاز مشروعات الخدمات الوطنية، وجهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، وصندوق إسكان أفراد القوات المسلحة، وجهاز الصناعات والخدمات البحرية.
إن إصدار السيسي لتلك التشريعات الاقتصادية والموافقة عليها من مجلس النواب بسرعة البرق وبالأمر المباشر من العسكر أنفسهم تعطي بوضوح صورة بالغة الدلالة عن ما وصلت إليه مصر من استرقاق للاقتصاد على يد العسكر الذين جمعوا بين السلطة والثروة والقوة الباطشة في أيديهم وتحقق فيهم ما حذر منه ابن خلدون "من الجاه المفيد للمال". ومن هنا بات الفساد غذاء للعسكر، وباتت إدارته بسورة منظمة وممنهجة هي كل همهم ومبلغ علمهم بغض النظر عن البحث عن نموذج تنموي يحقق العدالة الاجتماعية المفقودة ويحول دون النهب المنظم للثروات، وكل هذا إفراز طبيعي للاستبداد الذي لا ينفصل عنه الفساد. فليس من وراء الاستبداد سوى الفساد وليس من وراء الفساد سوي خراب العمران.