الجولة الحالية لمعركة الصحفيين والعسكر في
مصر لم تنته ، هي لاتزال بعد سجالا، ظهر الصحفيون أقوياء في بدايتها فاحتشدوا في جمعية عمومية تاريخية يوم 4 مايو 2016، ثأرا لكرامتهم واصدروا قرارات وتوصيات تليق بهم، رفعوا أقلامهم في وقفاتهم كدلالة على قوة سلاحهم "القلم في مواجهة السيف"، استجمعت السلطة العسكرية قوتها لترد على غضبة الصحفيين، وجندت كل أدواتها ضدهم، فالنيابة تنحاز للشرطة، مبررة اقتحامها للنقابة بالمخالفة لنص قانوني صريح ( المادة 70 من قانون النقابة التي تمنع ذلك إلا بحضور عضو نيابة ونقيب الصحفيين وهو مالم يتم)، والنيابة نفسها تهدد نقيب الصحفيين، باتهامه بإيواء مجرمين في نقابته، وتلمح إلى وجود أسلحة معهم، والأمن الوطني يحرض عملاءه على تقديم بلاغات ضد رموز النقابة، حيث وصلت البلاغات ضد نقيب الصحفيين لأكثر من 700 بلاغ في العديد من محافظات مصر، وبلطجية الداخلية ممن يوصفون بالمواطنين الشرفاء جاهزون دوما للاحتكاك بالصحفيين وإهانتهم، ورجال النظام داخل الوسط الصحفي تم حشدهم أيضا ليقوموا بدورهم في شق الصف الصحفي فيتداعون لتشكيل ما يسمى جبهة تصويب المسار.
أمام هذه الهجمة المرتدة المنظمة من السلطة العسكرية تراجع مجلس نقابة الصحفيين خطوات للخلف، بداية التراجع والهزيمة المعنوية لمجلس النقابة كانت عبر بيانها الأول عقب الجمعية العمومية بيوم واحد والذي حاول مغازلة السلطة بزعمه "أنه لم ولن يسمح لأى جماعة أو تيار باستخدام هذه الأزمة لخدمة أهداف سياسية، أو ممارسة العمل السياسي من داخل النقابة".
كان واضحا أن الإشارة هنا للتيار الإسلامي أو للإخوان المسلمين تحديدا ومن ينتمي لهم من عموم الصحفيين أعضاء الجمعية العمومية، وإن كانت الإشارة تتسع أيضا لتشمل بقية التيارات السياسية التي كانت حاضرة في الجمعية العمومية مثل التيار اليساري والليبرالي، علما أن حضور تلك التيارات السياسية بكل تنويعاتها (إسلامية- يسارية- ليبرالية) هو أمر منطقي تماما في نقابة الصحفيين التي هي نقابة رأي بطبيعتها، كما أن وجود الصحفيين المنتمين لهذه التيارات كان بالفعل هو سر قوة الجمعية العمومية وقدرتها على إصدار تلك القرارات العظيمة التي نكس عنها النقيب ومجلسه لاحقا تحت ضغوط السلطة وانفرادها بهم.
نجحت السلطة إذن في عزل نقابة الصحفيين (أو بالأحرى مجلس النقابة) عن البيئة الشعبية الحاضنة، وانفردت بها، وبدأت توجه لها اللكمات، وبدا نقيب الصحفيين ومجلسه مستسلمين أمام تلك اللكمات، لا يقوون على الرد بعد أن ساهموا بأنفسهم في إضعاف موقفهم بهجوم غير مبرر على جزء أصيل من قوتهم من أعضاء النقابة.
كان التنوع السياسي والنقابي الذي ظهر عقب اقتحام النقابة سواء قبيل أو أثناء الجمعية العمومية للصحفيين هو سر قوتها كما ذكرنا، ذلك أن الطليعة الصحفية الواعية صاحبة الفكر( من كل التيارات) كانت ترك من البداية حدود وحجم المعركة، وأنها ليست مجرد نزهة صغيرة، وأنها لاتقف عند حدود وزير الداخلية بل إنها معركة ضد حكم عسكري هو بطبيعته عدو للصحافة الحرة، ولا يستطيع العمل في وجودها، ويسعى جاهدا للتخلص منها، وتحويلها إلى مجرد أدوات وأذرع وأبواق تسبح بحمده، وتقبل بما يلقيه لها من فتات في شكل بدلات مالية أو ميزات عينية.
ولذلك فقد سارعت تلك الطليعة الصحفية الواعية إلى نقابتها عقب وقوع الاقتحام مباشرة، ونظمت وقفة على سلالم النقابة هتفت فيها بسقوط حكم العسكر، وأصدرت بيانا كان هو الموجه لعمل الجمعية العمومية لاحقا، حيث حدد المطلبين الرئيسيين وهما إقالة وزير الداخلية مجدي عبد الغفار، والإفراج عن جميع السجناء الصحفيين، وحين احتشد آلاف الصحفيين في جمعيتهم العمومية كان لتلك الطليعة الصحفية دورها المؤثر أيضا في قيادة الجمعية العمومية وتوجيهها في الطريق الصحيح، حين اعتبرت أن المسئول الأول عن اقتحام النقابة ليس مجدي عبد الغفار بل عبد الفتاح السيسي فطالبت باعتذاره شخصيا ضمن قراراتها وتوصياتها التي بلغت 18 قرارا، وعاد الصحفيون مجددا ليهتفوا بسقوط حكم العسكر على سلالم نقابتهم.
هذا الإدراك بطبيعة المعركة وحدودها دفع قوى مجتمعية أخرى لدعم نقابة الصحفيين، وتوافدت وفود النقابات والأحزاب على النقابة لتحيتها وإعلان التضامن معها، حتى تقهقر مجلس النقابة تحت ضغوط السلطة وتهديداتها، ولم يستمر على موجة الجمعية العمومية التي جددت الثقة فيه لتقوية ظهره في مواجهة سلطة غاشمة أرادت أن تركز معركتها عليه في البداية بتوجيه اتهامات هلامية للنقيب ومجلسه وبتحريك ميليشياتها الصحفية للمطالبة بسحب الثقة منهما.
كان أحدث مظاهر الانبطاح هو تلقف كلمات عائمة مائعة نطق بها السيسي لم يذكر فيها لفظ نقابة الصحفيين ولا الأزمة معها، متحدثا عن "ضرورة تجاوز الأزمة بين بعض مؤسسات وأجهزة الدولة والإعلام، علي أساس الحرص على المصلحة العامة واحترام سيادة القانون، وقاعدة المساءلة، والحرص على التوحد خلف هدف الحفاظ على استقرار وأمن مصر"، كان واضحا أن السيسي يستنكف عن ذكر إثم النقابة والأزمة؛ لأنه أدرك أن رسائله التهديدية وصلت لمن يعنيهم، ولا أدل على ذلك من تهافت مجلس النقابة على تلك الكلمات الغائمة المتغطرسة؛ إذ سارع المجلس بإصدار بيان يرحب بـإشارة السيسي، بينما لم يشر لضرورة احترام وتنفيذ قرارات الجمعية العمومية للصحفيين، وكان قد سبق لبعض أعضاء المجلس الادعاء أن مطالبة السيسي بالاعتذار كان قرارا متسرعا من الجمعية العمومية وأن المجلس تنازل عنه، وهو اعتداء واضح على سلطة الجمعية العمومية وإرادة الصحفيين التي تعلو المجلس والنقيب.
لدى الصحفيين في عمومهم ولطليعتهم على وجه الخصوص فرصة جديدة لإعادة الاعتبار للقلم في مواجهة السيف، ولإعادة الاعتبار لقرارات الجمعية العمومية وذلك في المؤتمر العام المقرر يوم الثلاثاء المقبل، وهو المؤتمر الذي قررته الجمعية العمومية وحددت له موعدا يوم الثلاثاء الماضي، غير أن المجلس أرجأ موعده دون سند بحجة فتح المجال للحوار والحل السياسي، ورغم ذلك لم تبد السلطة أي إشارة لحل الأزمة سوى تلك الإشارة المبهمة من السيسي والتي نراها تأكيدا على ضرورة عودة النقابة لبيت الطاعة وليست إشارة لتقديم ترضيات للنقابة عما لحقها من إهانة، الكرة الآن في ملعب الجمعية العمومية مجددا لتتولى زمام أمورها، وتختار من بينها لجنة لمتابعة تنفيذ قراراتها وبحث كل الخيارات اللازمة لذلك التنفيذ، وعدم الركون لمجلس مفكك وضعيف، أصبح كل هدفه هو الحفاظ على وجوده وبقائه حتى وإن ضاعت هيبة وكرامة الصحفيين ونقابتهم، وحتى لا يصاب البعض بالملل والإحباط تذكروا أن المعركة الناجحة لإسقاط القانون 93 لسنة 1995 استغرقت عاما كاملا.