فلما كان الجزء الثالث من التسريبات الأخيرة، فقد لفت انتباهي، استدعاء حديث سابق للسيسي، كان واضحاً فيه مع الإخوان عندما تم اختياره وزيراً للدفاع، حيث أخبرهم بأنه لا سلفي ولا إخوان!
من الواضح أنه حديث قديم للمذكور (السيسي)، ربما جاء في المقابلات التلفزيونية عندما ترشح للانتخابات الرئاسية في سنة 2014، ومع ذلك مررنا عليه مرور الكرام، ربما لأنه قال كلاماً كثيراً في هذه المقابلات استحق الانشغال به، تماماً كما انشغلنا بالتسريبات ومدلولها عن هذا القول القديم على أهيمته، والذي جاء استدعاؤه في حملة الدعاية للسيسي، في الاتصال الذي جرى بين "عزمي مجاهد" وضابط المخابرات الحربية، المكلف بإدارة المشهد الفضائي!
لا نعرف مناسبة هذا القول: "أنا لا سلفي ولا إخوان"، كما لا نعرف السياق الذي قال فيه عبد الفتاح السيسي هذا الكلام، هذا إن كان قد قاله فعلاً، وإن مثل إشارة بأنه لم ينافق القوم، وكان حاداً معهم كالسيف، واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، فهو لم ينافق من اختاروه، وهذا هو بيت القصيد!
دعك من القول بأنه ليس سلفياً، فسلفيته لن تمثل قيمة مضافة عندما اختاره الإخوان وزيراً للدفاع، بل إنها ستخصم منه.. فلم يكن منطقياً أن يقول السيسي للإخوان أنه إخوان؛ لأن الجماعة تعرف المنتسبين إليها جيدا، وهناك ما يشبه "كلمة سر الليل"، إذا التقى إخواني من "السلوم"، بآخر من "حلايب" لأول مرة، ولم يكن أحدهما على دراية بأن الآخر من الجماعة، فليس صحيحاً أن السيسي لو قال إنه من الإخوان، سينطلي الأمر على قادة الجماعة!
السيسي فعل في سبيل التقرب، ليس إلى الإخوان فقط، ولكن لكل "جماعة المؤمنين"، ما يمثل "النفاق بزيادة"، حد أن يؤدي التحية العسكرية للشيخ محمد حسان
بيد أن المذكور فعل في سبيل التقرب، ليس إلى الإخوان فقط، ولكن لكل "جماعة المؤمنين"، ما يمثل "النفاق بزيادة"، حد أن يؤدي التحية العسكرية للشيخ محمد حسان على حين غرة، فيصيبه بالفزع، على نحو يُخشى معه أن يكون قد قطع الخلف. وقد ظل لآخر لحظة مستكيناً إذا جلس في حضرة الرئيس محمد
مرسي، حتى في اللقاء الأخير في 2 تموز/ يوليو، وقبل بيان الانقلاب بساعات، انظر إليه وهو يجلس أمامه على أطراف مقعده، لكن هذا ليس موضوعنا!
فكون عبد الفتاح السيسي يقول إنه لم يقم بنفاق الإخوان بعد اختياره وزيراً للدفاع، فإنه يوضح أموراً توافقت جميع على الأطراف على تزييفها.. فالأمر هنا يؤكد أن المختار وزيراً كان في موقف يحتم عليه أن ينافق إلا أنه لم يفعل. والمعنى هنا أن اختيار السيسي وزيراً للدفاع كان قرار الرئيس ولم يكن إملاء عليه من أحد، وإن كان لم يمارس النفاق بعد الاختيار، ولم يتقرب لمن اختاره بالنوافل، فكان حاسماً وهو يقول: "لست إخوانيا أو سلفيا". ولم يكن أحد سيصدق لو قال عكس ذلك، فلا يمكن ابداً أن يترقى حتى رتبة اللواء، وهو إخواني أو سلفي، والتقارير المعتمدة في الترقيات داخل الجيش في حكم مبارك كانت التي تكتبها مباحث أمن الدولة!
كون عبد الفتاح السيسي يقول إنه لم يقم بنفاق الإخوان بعد اختياره وزيراً للدفاع، فإنه يوضح أموراً توافقت جميع على الأطراف على تزييفه
قبل الانقلاب، كان المنتمون للثورة المضادة يبذلون جهداً عظيما في الدعاية لفكرة أن مرسي ليس صاحب قرار إقالة طنطاوي وعنان، وأنهما من رفضا الاستمرار معه، وأنهما من ألزما الرئيس وهما يقدمان استقالتهما باختيار السيسي وزيراً للدفاع. وكتبت كثيراً أفند هذا الادعاء، وأنتصر للرواية القائلة بأن عزلهما كان قرار الرئيس؛ الذي يراد تجريده من كل موقف شجاع، وليس أهم ما قلته أن طنطاوي وعنان لم يحضرا الاحتفال بليلة القدر وقد تم عزلهما قبل ساعات، فلو كان الأمر استجابة لهما، لحضرا لتأكيد أنها استقالة وليست إقالة!
وبعد الانقلاب، حرص فريق من أنصار الشرعية على استدعاء رواية الثورة المضادة، لتبرير العجز عن مواجهة الانقلاب والتحسب له، والانتصار لفكرة الرئيس المغلوب على أمره؛ لأنها عندهم أفضل من فكرة "الرئيس المخدوع"، وأزمة الرئيس محمد مرسي في أنه وثق في عبد الفتاح السيسي أكثر مما ينبغي. ومثلي إذا يقر بقدرة السيسي بانصياعه التام للرئيس على الخداع، فإن ما لا أقره أن تصل الثقة حد الأمان الكامل له، والقصة هنا ليست أخلاقاً رفيعة، مع قوم لا يتحلون بها، فالإدارة، ولو إدارة مسجد، فضلاً عن إدارة دولة، تستدعي أن يكون المدير بصيراً بخصائص البشر الذين يعملون تحت ولايته، وإلا صرنا أمام "دروشة" لا تليق إلا بالمتصوفة في حلقات الذكر. ولا أحد يمكنه أن يزايد على عمر بن الخطاب في ورعه وتدينه، ومع ذلك قال: لست بالخب ولا الخب يخدعني. والخب، كما ورد في الأثر، هو الشخص المخادع!
بعد الانقلاب، حرص فريق من أنصار الشرعية على استدعاء رواية الثورة المضادة، لتبرير العجز عن مواجهة الانقلاب والتحسب له، والانتصار لفكرة الرئيس المغلوب على أمره لأنها عندهم أفضل من فكرة "الرئيس المخدوع"
أين تكمن المشكلة هنا؟!
إن الرئيس لم يكتف بإقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان، فعدد من أقالهم من المجلس العسكري حوالي سبعة عشر عضواً، على نحو يفقد فكرة المؤسسة العسكري المتآمرة معناها. وبدلاً من أن يشغل هذه المواقع بعدد من الضباط من اختياره، والقانون يعطيه الحق في استدعاء من هم على المعاش، وقد فعلها طنطاوي لاستكمال تشكيل المجلس العسكري بعد الثورة، فقد أوكل بالمهمة لعبد الفتاح السيسي، فاختار من يدينون له هو شخصياً بالولاء، ولا يشغلهم غيره، وفي وجودهم كان انقلابه العسكري. كما يحسب للرئيس محمد مرسي أن أقال قائد الحرس الجمهوري الذي عينه له طنطاوي، لكن المشكلة أن السيسي هو من اختار له البديل!
في أزمة مراكز القوى مع السادات، فإن الفريق محمد فوزي، وزير الحربية، قال إن هناك جيشاً آخر لم نعمل حسابه في مخطط الانقلاب على الرئيس، كان هو الحرس الجمهوري؛ لأنه جيش مستقل، لا يتبع الجيش وقادته، ولكن ولاؤه الكامل للرئيس. وكان الليثي ناصف، قائد الحرس، قد قال للسادات إن ولاءه للشرعية، أي له.
لقد رفض الرئيس محمد مرسي اقتراحاً من السفير رفاعي الطهطاوي، بتعيين قائد حرس جديد، يكون من اختيار الرئيس، لا أحد غيره. وكان طبيعياً بعد الانقلاب أن يخن قائد الحرس التقاليد العسكرية
لقد رفض الرئيس محمد مرسي اقتراحاً من السفير رفاعي الطهطاوي، بتعيين قائد حرس جديد، يكون من اختيار الرئيس، لا أحد غيره. وكان طبيعياً بعد الانقلاب أن يخن قائد الحرس التقاليد العسكرية، ويسلم الرئيس لمختطفيه؛ لأن ولاءه للسيسي وليس للرئيس!
وعقب اقتحام الاتحادية، وإذ ثبت تواطؤ وزير الداخلية محمد جمال الدين، فقد أقاله الرئيس، وهو قرار شجاع أيضاً، لكن من اختار الوزير الجديد "محمد إبراهيم" الذي شارك في الانقلاب عليه؛ هو عبد الفتاح السيسي.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يضع الحاكم ثقته في أحد حد اختيار كل قادة الأجهزة الأمنية، ولو كان ذا قربى. فمبارك كان يحرص على أن يكون هؤلاء في حالة عداء، فوزير الدفاع ليس على وفاق مع رئيس الأركان، ومدير المخابرات العامة في عداء مع وزير الدفاع، وكمال الجنزوري يتعمد إهانة مراكز القوى في السلطة (كمال الشاذلي، وصفوت الشريف، وفتحي سرور)، ومبارك حرض وزير الدفاع على الجنزوري، فلا يصح أن يخاطبك باسمك مجرداً، ويناديك "يا حسين" كما لو كنت بواباً في عمارته، ولا يترك ابنه وزوجته يسيطران على الدولة، بل يترك لهم دائماً صفوت الشريف لينكد بوجوده عليهما، ويحمي الصحافة التي ترفض التوريث وتهاجم أحمد عز!
وهى صيغة في الحكم قد لا تروق لكثيرين، لكن يبقى اختيار القيادات الأمنية بيد الحاكم، هو من حسن الفطن.
الانقلاب لم يكن قدراً مقدوراً.