بورتريه

طائرة من "ورق وخيطان".. هكذا تحولت لأداة مقاومة (بورتريه)

الطائرة الورقية كاريكاتير بورتريه

لطالما اعتاد الناس على سماع فيروز تغني" طيري يا طيارة يا ورق وخيطان"، وهي اللعبة التي تملؤها الطفولية والألوان والدهشة والركض، ولكنها اليوم كشفت عن دور جديد كـ"الطائرة الورقية" باستفزاز وإثارة أعصاب القناصة الإسرائيليين المختبئين خلف الساتر الترابي.

"طائرة فيروز" المتخيلة، أصبحت "طائرة ورقية" يربط في ذيلها علبة معدنية داخلها قطعة قماش مغمسة بالسولار، لتتحول طائرة الطفولة المدهشة إلى أداة مقاومة تستنفر الاحتلال الإسرائيلي وفق ما تم رصده في قطاع غزة.

كانت أمهات الشهداء يحتفظن بآخر شيء لمسه أو احتضنه الشهداء من أبنائهن، ويضعن التذكار وسط البيت جزءا من موروثات العائلة، كآخر حجر أمسك به الشهيد، أو حذاء أو قميص كان يرتديه حين استشهد، أو أي شيء من متعلقاته.

الأم أماني شراب، احتفظت بآخر حلم كان يراود ابنها الشهيد عزام عويضة (15 عاما) في منزلها في حي "الشيخ ناصر"، وسط مدينة خانيونس، إذ جلست تبكي بحرقه، محتضنة " طائرة ورقية" بدأ صغيرها في إعدادها، لكن رصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي منعه من إكمالها.

وتقول الأم، إن ابنها كان يحب صناعة "الطائرات الورقية"، ويقوم بإطلاقها في الهواء، من فوق سطح منزلهم. وتضيف أنه بدأ ليلة الخميس (قبل إصابته بيوم) في صناعة الطائرة، من ثلاثة عيدان خشبية وخيطان، وعلقها في الصالون، ولم يكمل العمل بها.

قال الطفل عويضة لوالدته: "سأذهب للحدود، وإذا استشهدت انظري (للطبق/الطائرة)، وتذكريني".

"نبوءة عزام" تحققت ورحل الطفل برصاصة قناص إسرائيلي أصابته في الرأس مباشرة، وترك وراءه تذكارا مؤلما مكونا من عيدان وخيوط.

وألهم ذلك الفلسطينيين لإدخال "الطائرات الورقية" في المقاومة الشعبية، بهدف إشغال القناصين الإسرائيليين المتفرغين لقتل المتظاهرين الفلسطينيين على الحدود، لكن ذلك تطور إلى إرباك سلطات الاحتلال على أكثر من صعيد، كما يقول بعض من يقفون خلف هذه الوسيلة الجديدة التي بدأت في الأصل كنوع من الأسلحة.

 

تاريخ الطائرة الورقية

"الطائرة الورقية"، لعبة الطفولة البريئة، عرفتها الشعوب منذ نحو ألفي عام، حين بدأت الصين صناعتها من الخشب ثم الحرير والخيزران، وفيما بعد أصبح الورق المفضل في صنع "الطائرات الورقية"، ولم يبدأ استخدامها لأغراض الترفيه واللعب، بل كان الهدف من صناعتها عسكريا. 

فكتب التاريخ تذكر أنها كانت كبيرة في الحجم، وبعضها كان قويا، بما فيه الكفاية لحمل رجل في الهواء ومراقبة تحركات العدو، أو حتى توزيع المنشورات على جنود الأعداء لتهديدهم وحثهم على الاستسلام.

وانتقلت "الطائرات الورقية" إلى اليابان في القرن السادس الميلادي، ويعتقد أنها استخدمت في البداية لأغراض دينية، ومثلت "الطائرات الورقية" لدى اليابانيين رمزا للحظ السعيد والازدهار والخصوبة، لكنها أحيانا كانت تمثل رموزا للأرواح الشريرة الغائبة.

وكلمة "طائرة ورقية" وردت أول مرة في كتاب ياباني يمثل قاموسا جمع عام 981، وكانت تدعى "الصقور الورقية"، ويعتقد أنها استخدمت عند البوذيين لأغراض دينية، وطير الناس طائراتهم على أمل الحصول على حصاد جيد، وتربط أحيانا ببعض أغصان الرز لتمثل رموزا للشكر والخير.

وحظيت "الطائرة الورقية" باهتمام العلماء واستخدموها في تجاربهم ففي عام 1749 في اسكتلندا، استخدمها الكسندر ويلسن لقياس درجات الحرارة في الارتفاعات المختلفة ولكي يتمكن من تنفيذ تجربته ربط "طائرات ورقية" عدة بخيط واحد وارتفاعات مختلفة ووضع في كل طائرة مكنه من قياس درجة الحرارة في كل ارتفاع.

وفي عام 1752، قام العالم الأمريكي بنجامين فرانكلين بتطيير "طائرة ورقية" في عاصفة مطرية ليثبت أن خصائص البرق هي نفسها خصائص الكهرباء التي تتولد في المختبرات.

وأجرى الرواد الأوائل مجموعة مدهشة من التجارب في مجال الطيران تضمنت استعمال تراكيب "الطائرات الورقية"، ومكنت تقنيتها العلماء والمهندسين من تطوير فهم الديناميكية الهوائية التي أدت في النهاية إلى صنع الأنواع المتطورة من الطائرات المتوافرة الآن.

سلاح ضد العدو

الفلسطينيون لم يخترعوا "الطائرات الورقية" بالتأكيد، لكنهم أعادوها إلى سابق عهدها سلاحا يستخدم ضد العدو، وإلى ساعي بريد يحمل رسائل للجنود ومن خلفهم.

فقد أطلق العديد من الشبان الفلسطينيين ضمن فعاليات "مسيرات العودة"، عشرات "الطائرات الورقية" الحارقة تجاه الأراضي التي يسيطر عليها الاحتلال، احتجاجا على حصار غزة، واستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وانطلقت "مسيرات العودة" وكسر الحصار في قطاع غزة المحاصر للعام الثاني عشر على التوالي في آذار/ مارس الماضي، تزامنا مع ذكرى "يوم الأرض"، ومن المخطط أن تبلغ ذروة فعاليات المسيرة في 15 أيار/ مايو المقبل، وهو اليوم الذي يصادف ذكرى النكبة الفلسطينية.

وهي مسيرات سلمية يرى فيها الاحتلال عبر إعلامه خطرا قادما، ويلفت الكاتب الإسرائيلي نيكي غوتمان في صحيفة "إسرائيل اليوم"، الانتباه إلى أن "التهديد الجديد القادم من غزة بات يتمثل في الطائرات الورقية، حيث شهدت الأيام الأخيرة إطلاق عدد من الفلسطينيين لهذه الطائرات المصحوب في ذيلها زجاجات حارقة إلى داخل الحدود، مما يتسبب أحيانا بحدوث حريق لعشرات الدونمات الزراعية قرب خط الهدنة".

رعب لدى الإسرائيليين

ويؤكد الخبير العسكري الإسرائيلي أمير بوحبوط في مقال تحليلي نشره موقع "واللا" الإخباري أن "التهديدات الأمنية القادمة من قطاع غزة تتصاعد في ظل مسيرة العودة مع مرور المزيد من الوقت، وآخرها كان الطائرات الورقية التي تحولت من لعبة أطفال إلى تهديد حقيقي للجبهة الداخلية".

وحذر من أن "الطائرات الورقية نجحت في إشعال الحرائق في الحقول والأحراش الزراعية وسط مخاوف من إرفاق هذه الطائرات بمواد متفجرة، وليس الاكتفاء بإرسالها لإشعال الحرائق".

من جانبه، قال عضو الكنيست حاييم يالين وهو جنرال سابق ومقيم في التجمعات الاستيطانية القريبة من غزة، إن الطائرات الورقية الفلسطينية "يجب أن تشعل الضوء الأحمر لدى دوائر صنع القرار في تل أبيب".

وأضاف يالين: "من استهزأ في السابق ببعض المواسير والأنابيب، فها هي تطورت اليوم لتصبح قذائف صاروخية، واليوم من يسخر من الطائرات مع مرور الوقت سيراها تحوم حول التجمعات الاستيطانية قرب غزة".

سلاح فتاك

وأشار إلى أن الأنفاق التي استخدمها الفلسطينيون في البداية لتهريب البضائع التجارية من سيناء لغزة تطورت وأصبحت من "أفتك التهديدات بإسرائيل". 

وقال: "محظور الاستهتار بحماس لأنها حركة تتعلم بسرعة وتستفيد بسرعة"، وفق وصفه.

وكشفت مسيرات العودة أيضا عن أسلحة بدائية وبسيطة، لكنها مؤثرة، وتترك أثرا سلبيا عند الطرف الآخر، من بينها "المقلاع العملاق" و"الكمامة" لمواجهة الغازات والإطارات المشتعلة، وغيرها. 

لكن "الطائرات الورقية" حكاية أخرى، فهي دخلت إلى غرف الأمهات كنوع من تركة الشهداء، وهي أيضا تثير مخاوف الإسرائيليين أكثر من جميع الطائرات الحربية التي تخزنها الجيوش العربية في مستودعات رطبة وصدئة.