قبل ساعات من كتابة هذا المقال، جمعني لقاء بأحد الشباب
اليمنيين المثقفين، الذي سرد لي قصة نقلها على لسان سفير يمني سابق؛ دار حوار بينه وبين دبلوماسي ألماني قبل أربع سنوات، مفاده أن المخطط المرسوم لليمن يقضي بتشجيع إقامة دولة شيعية في الشمال يحكمها الحوثيون، ودولة سنية في الجنوب تعيش تحت وطأة النفوذ المفترض للقاعدة.
الدبلوماسي اليمني رد على نظيره الألماني باستغراب قائلاً: ولكن ليس في اليمن شيعة يمكن أن يوفروا إمكانية لإقامة الدولة الشيعية التي تتحدث عنها، فرد عليه: سيكون هناك شيعة.
تُلخص هذه الحكاية طبيعة الهندسة الخطرة التي يجريها الغرب الغني جداً في منطقة مضطربة ومنقسمة ومتفاوتة إلى حد الجنون في المستويات المعيشية، إلى حد يسمح بتطبيق مبدأ التغيير بواسطة الصدمة، هو الخيار الذي ينساق وراءه بإصرار تحالفُ الحكام الجدد في الرياض وأبو ظبي.
لا أخفي أبداً قلقي الشديد من الحماس الأمريكي المفاجئ لإنهاء الحرب في اليمن، مستغلاً حالة الحرجة للرياض نتيجة تورطها في جريمة اغتيال الصحفي البارز جمال خاشقجي.
أقول ذلك لأن حماساً كهذا يتجاوز مسألة التعبير عن حسن النوايا تجاه الأوضاع السيئة التي يعيشها اليمن في هذه المرحلة، وتدفع إلى ترجيح الذهاب نحو سلام ينهي الحرب، بل إنها تتضمن خارطة طريق تحقق جانباً مهماً مما كشف عنه الدبلوماسي الألماني لنظيره اليمني في لحظة صفاء ذهني متحررة من اعتبارات السياسة.
في منتدى حوار المنامة، كشف وزير الدفاع الأمريكي عن إمكانية تأسيس دولة حكم ذاتي للحوثيين الموالين لإيران، في وقت يمضي فيه قادة
الحوثيين معظم وقتهم في تأسيس البنى الفكرية والثقافية والأيديولوجية لما يشبه الدولة الشيعية في منطقة سيطرتهم بشمال غرب البلاد.
ويتبنى القادة السلاليون الحوثيون مذهباً جارودياً لا يختلف كثيراً عن المذهب الإثني عشري، من حيث انسياقه وراء الخصومة المذهبية المتجذرة مع البدايات المشرقة للدولة الإسلامية التي تأسست في المدينة المنورة بعد انتقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه، والخصومة تزداد أكثر تجاه آلية انتقال السلطة التي اعتمدها اجتماع السقيفة، واضطرت بنظرهم علي ابن طالب رضي الله عنه إلى الانتظار طويلاً قبل أن يتولى الخلافة، وهو الأحق بها منذ اليوم الأول كما يزعمون.
يتبنى قادة الحوثيين وأتباعهم المتحمسون الخصومة المتحللة من أي قيد أخلاقي تجاه الصحابة وأمهات المؤمنين.. وخطورة منهج كهذا أنه يتغذىيتغذى على الكراهية المتأصلة في عمق الممارسات العقائدية للشيعة، والتي تأخذ بعداً مؤسسياً ضارباً بجذوره في عمق التاريخ.
والأسوأ منه، أن وقوع اليمن المعروف بانفتاح طوائفه وتقاربه من حيث الممارسات العقائدية؛ يمكن أن يتحول إلى ساحة صراع طائفي مفتوح وعرضة للاختراق من المشاريع الخارجية المتربصة به، والتي ستحرص على إبقائه ضعيفاً ومنقسماً وغير قادر على اللحاق بركب الشعوب المتطورة، إلى جانب ما قد ينتج عن صراع كهذا من وقائع ومعطيات خطيرة في الجزيرة العربية برمتها.
لذا، يتوجب التنبيه إلى أن أمريكا في ظل إدارة ترامب تخاطر كثيراً في جلب سلامها المشوه والطائفي إلى اليمن عبر الضغط على المملكة العربية
السعودية لإيقاف الحرب، وربما الخروج من اليمن بدون ثمن مناسب ويستحقه شعبنا المظلوم.
وجميعنا يعلم أن أمريكا هي التي هندست للعملية السياسية والانتقالية في اليمن منذ شباط/ فبراير 2011، عبر المبعوث الأممي إلى اليمن جمال بنعمر، ودفعت بالبلاد إلى هذا الوضع الخطير بالتواطؤ مع السعودية والإمارات.
وهو الأمر الذي يحتم على واشنطن أن تمارس الضغط الإيجابي على الرياض لكي تنجز مهمتها وفق أولويات الشعب اليمني، وهي مهمة الشق العسكري جزء يسير منها؛ قياساً بالدعم المفترض الذي ينبغي أن تقدمه الرياض لتمكين الدولة اليمنية المتفق عليها من كل اليمنيين، وإعادة تأهيل الاقتصاد وترسيخ أسس الاستقرار.
على السعودية ومعها
الإمارات، وتحت ضغط أمريكي وغربي مناسب، أن تتخليا فوراً عن طموحاتهما الاستعمارية في اليمن، وأن تعيدا تصحيح مسار تدخلهما العسكري باعتباره التعويض المناسب عن الخراب الذي لحق باليمن بسبب سياساتهما الكارثية والمتجردة من أية قيمة أخلاقية أو دينية أو إنسانية، عندما تآمرا على ربيع اليمن وأفشلا واحدة من أنجح عمليات الانتقال السياسي في المنطقة العربية.
لن يدفع اليمن وحده ثمن الهندسة الأمريكية الجديدة لسلام خطير وكارثي، كالذي يعد به وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيين، بل السعودية والمنطقة برمتها سيدفعان ثمناً باهضاً كذلك، مع ثقتي الكبيرة بأن الله لن يخذل اليمنيين الصابرين، إذ لا يزال لديهم ما يكفي من الخيارات للتعاطي مع أسوأ الاحتمالات، بما فيها النتائج الصعبة والمحتملة لانسحاب سعودي وإماراتي مذل من اليمن؛ تحت الضغط الغربي المتصاعد عليهما.