ظن عبد الفتاح
السيسي، أن حكمه استوى على الجودي، ومن ثم فقد وجد أن الفرصة مواتية، ليجهر بموقفه من ثورة يناير، وكان يُخفي في نفسه ما الله مبديه!
ولم يكن السيسي وحده هو من تحرش بثورة الشعب
المصري مؤخراً، فقد فعلها وزير داخلية
مبارك عيانا بياناً، وفي قاعة محكمة تحاكم الرئيس محمد مرسي وإخوانه، وقال إنها ليست ثورة ولكنها فعل خارجي. حدث هذا في نهاية الأسبوع الماضي، وفي بداية هذا الأسبوع.. كان السيسي على موعد مع "فرح العمدة" في شرم الشيخ، فحذر من الثورات، واتهمها بالمسؤولية عن الخراب، لدرجة أن كل أمانيه تمثلت في العودة إلى ما قبل سنة 2011!
فقد توقفت دعاية الجيش الذي حمى
الثورة، والذي أجبر مبارك على مغادرة قصر الحكم، والذي رفض أوامره بضرب الثوار، إلى غير هذا من كلام غير الصحيح، كان يقف خلفه الأعلى للقوات المسلحة. وللأسف الشديد، فإن من بين المحسوبين على الثورة من روجوه، ليبرروا خيانتهم لها، عندما ذهبوا للقاءات المجلس العسكري، وليبرروا استدعاء الجيش في 30 يوينو 2013. وهى دعاية تصديت لها مبكراً، لكني كنت كمن ينادي في وادي غير ذي زرع. فالجميع في حلقة ذكر، لا سيما بعد الخديعة الأولى، عندما طلع علينا المتحدث باسم المجلس العسكري في ليلة التنحي؛ وهو يؤدي التحية العسكرية لشهداء الثورة!
لم يعد من المناسب الآن تذكير العسكر بأنهم حموا الثورة، وقدموا التحية لشهدائها، وهى مؤامرة خارجية، أنتجت الخراب والفوضى، بحسب قول السيسي؛ لأن الجميع كانوا يروجون لأكذوبة، فلما علم كل أناس مشربهم. لم يجدوا مبرراً لتذكير عبد الفتاح السيسي بهذه الدعاية، فقد كان الجميع يمارس النفاق السياسي، بمن في ذلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة، هو من اختيار مبارك، الذي كان يرقي ويعزل، ويصطفي ويختار!
في رقبة يناير
لا بأس، فقد فسدت "إسطوانة" الجيش الذي حمى الثورة، وصارت الثورة عملاً تخريباً. هو المسؤول عن كل هذا الفشل، ومن ثم يريد عبد الفتاح السيسي تعليق كل ما نحن فيه من ضنك وتردي في رقبة ثورة يناير، ومن الواجب أن نجاريه في هذا، وسوف نقف على أنه كلام ينتجه عقل مشوش، يضر بنفسه قبل أن يضر بثورة يناير. وللأسف، فإن كل دعاية العسكر التي تبنوها بشكل مباشر أو من وراء حجاب، تضر بهم!
انظر إلى دعاية السيارات ذات الدفع الرباعي، التي عبرت الحدود المصرية قادمة من غزة، لتسير آلاف الكيلومترات، ولكي تصل إلى السجون المصرية فتقوم بفتحها وتعود أدراجها مرة أخرى، وهو ما أعاد تكراره "حبيب العادلي" في شهادته مؤخراً. وإذا كان وزير داخلية مبارك يدرك عدم مسؤوليته عن هذا الاقتحام من قبل حركة حماس للبلاد، حيث انهارت وزارة الداخلية ليلتها، فمن المؤسف أنها رواية اعتمدها المجلس العسكري للترويج مبكراً، مع ما فيها من إساءة لقدرة القوات المسلحة على حماية الحدود وصد العدوان، باعتبارها هي من نزلت لفرض الأمن (وليس لحماية الثورة كما يروج المغفلون). ثم إن سيناء مسؤوليتها، سواء في وجود الشرطة أو في غيابها، فإذا كانت الثورة قد أسقطت الأمن، فإنها لم تسقط الجيش!
أزمة مصر التي أنتجتها حالة بعد الثورة، تتلخص في الفوضى الأمنية التي أشعرت البسطاء بأن البلد ضاعت. وكنا نقول إن من يقف وراء هذا، بما في ذلك مظاهرات المطالب الفئوية، هو الطرف الثالث، أو "اللهو الخفي"، وكان هذا الطرف هو المجلس العسكري الحاكم، الذي كان يدفع بالشبيحة لميدان التحرير في الأسابيع الأولى للثورة، للإساءة لرمزيته. وإذا كان الضيوف الأجانب قد أدرجوا زيارته على جدول أعمالهم، فقد كان هذا الحضور من قبل الشبيحة هو للتشويه، بل وإثبات أن الثورة قام بها مخربون!
في حين أن الثوار نزلوا في اليوم التالي لبيان التنحي ليقدموا أروع صورة في تاريخ الثورات، فقاموا بتنظيف الشوارع وطلاء الأرصفة، وتركوا المجلس العسكر (خليفة مبارك في الملاعب) يدير الحكم، بعد أن وعد بأنه لن يبقى فيه أكثر من ستة شهور، ثم يسلم السلطة للشعب، لكن المشكلة كانت تكمن في أنه يطمع في البقاء، فمشى بين القوى الثورية بالنميمة، وعمد على إشاعة الفوضى، تحت لافتة أن الشرطة تعاني من تحطم الروح المعنوية ومن جراء الثورة، وعلينا أن ندركها حتى تتعافى، وعندما استشعرت الجماهير أن طنطاوي يريد أن يبقى، كانت المظاهرات التي تطالبه بالرحيل، لكنه قال إنه قد يلجأ للشعب في استفتاء على البقاء، وكأنه جاء لموقعه باستفتاء!
استهياف الرئيس
فلم يكن المجلس العسكري أميناً على الثورة، أو مخلصاً لها، وكان أداؤه يقوم في اتجاهين: الأول هو الاستمرار في الحكم، فإن لم يستطع فليكن الخيار الثاني هو تسهيل البلاد للفوضى والفشل. وبعد أن بدأ بناء مؤسسات الدولة، كان يتدخل لهدمها، كما جرى عندما صدر حكم بحل البرلمان، وهو حكم غير مسبوق، فلم تكتف المحكمة الدستورية العليا بالنظر في العوار الدستوري في أحد القوانين، وإنما جارت على اختصاص محكمة الموضوع، وفصلت في الدعوى متجاوزة اختصاصها؛ لتمكين المشير محمد حسين طنطاوي من حل البرلمان، الذي جاء بإرادة شعبية خالصة في أروع انتخابات عرفتها مصر طوال تاريخها. وكان الهدف أن يجد المجلس الأعلى للقوات المسلحة مكاناً له في الحكم، بحجة أن سلطات التشريع انتقلت إليه بقرار الحل، ليقاسموا الرئيس المنتخب الحكم، وهي الازدوجية في الحكم التي أوقفها الرئيس محمد مرسي، بإلغاء الإعلان الدستوري وعزل قائد الجيش ورئيس الأركان!
وقد سبق هذا السيطرة على إعلام مبارك، بهدف ما أسميته بـ"استهياف الرئيس" وبتقديمه للرأي العام، بما يقلل من القدر ويحط من الهيبة. وكانت الدعاية أن من قتلوا الجنود في رفح هم أهل الرئيس وعشيرته، وانطلق أحد الإعلاميين فيهدد الرئيس بأنه سيقوم بالاعتداء عليه بواسطة رجاله إذا شارك في تشييع الجنازة، ليكشف هذا عن مخطط للفوضى كان يقف خلفه قائد الشرطة العسكرية، الذي استدعاه السيسي الآن مسؤولاً عن خط أسماك المزارع!
وإذا كان الرئيس مرسي نجح في منع ازدواجية الحكم، فقد استمر مخطط افتعال الفوضى، مع وجود "الشرطة المنهارة نفسيا"، ولا يمكن تبرئة الرئيس من تجاهل مطلب الثورة بإعادة بناء جهاز الشرطة. وقد كانت الأمور مواتية بعد قراره بعزل طنطاوي وعنان، وهو القرار الذي أحبطه بتعيين عبد الفتاح السيسي وزيراً للدفاع، مع محاولته إنهاء الثورة في يوم موقعة الجمل، وإشرافه على عملية اخلاء الميدان.
لقد استمر مخطط الفوضى، والذي كان ينقل بالصوت والصورة عبر إعلام الثورة المضادة. وفي الحقيقة أن حكم الرئيس محمد مرسي لم يستلم ملف الإعلام، حتى بتعيين وزيرا للاعلام ينتمي للجماعة، فكرة وتنظيماً!
ثم كان تأسيس حركة الملثمين (بلاك بلوك) الذين مارسوا العنف، والذين أخلت سلطة التحقيق الموالية للعسكر سراحهم جميعا، دون أن نعرف من أسس هذه الحركة ومن يقف وراءها ومن هم عناصرها، وإلى أي جهة يتبعون، وهي حماية يكفي سبر أغوارها للوقوف على من هم وراء هذه الفوضى، ثم كان ما كان باستيلاء السيسي على الحكم، بغطاء شعبي مفتعل، ليأتي الآن ليخيفنا من أن أي حراك شعبي لأنه سيقود البلد إلى الفوضى!
الاعتراف بالفشل
لقد اعترف السيسي بالفشل، وأن كل دوره هو العودة بمصر إلى حدود ما قبل 2011، وهو هنا يحذر من الخروج عليه، باعتبار أن الثورة هي الخراب الذي يقود للأسوأ دائما!
لا بأس، بل البأس الشديد هو أن السيسي لا يدرك أن اغلاق المجال القانوني للتغيير هو المسؤول الأول عن الثورة، وأن الاستبداد والفشل صنوان، فأحدهما ينتج الآخر، وأن إدارة المعسكرات لا تصلح لإدارة المجتمعات والدول!
بيد أنه يريد أن يحكم حكماً منفرداً، عنوانه الاستبداد والفشل وعدم القدرة على تلبية احتياجات الناس الأساسية، ثم تكون أداة في السيطرة هو التخويف من الحراك الشعبي، ويضرب مثلاً بفشل كان هو ومجموعة العسكر التي حكمت البلاد سبباً فيه، وجزء من مخططهم الجهنمي من أجل إفشال الثورة، لنجد أنفسنا أمام إفشال بلد المتهم الأول فيه هم العسكر.
ومشكلة السيسي أنه تعامل مع نفسه على أنه قدر المصريين، وعليهم أن يرضوا بالقضاء والقدر، دون أن يمكنهم من طريق طبيعي معمول به في المجتمعات الحرة لتغييره إن لم يره المصريون الأمل والمني.
وإذا كان المصريون، وبعد أن رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، يتحسرون على عهد مبارك، فها هو السيسي نفسه يفعل بعد أكثر من خمس سنوات من الحكم المنفرد. وفي ظل توقف الحراك الثوري تماماً، وسيطرته الكاملة على وسائل الإعلام، وكتمه للأنفاس، فليس هناك فوضى أمنية، فالجيش والشرطة قبضته، وكل الأجهزة الأمنية والرقابية طوع بنانه، فمن الذي منعه من النجاح، وقد صار الفاصل الزمني بيننا وبين الثورة هو أكثر من سبع سنوات؟!
الغريب أنه هو من يتحسر ويتمنى العودة إلى حدود ما قبل 2011، مشاركاً في ذلك المصريين الذين يعانون الأمرين في ظل حكمه، ففضلوا السيئ على الأسوأ.
إن السيسي وهو يشاطر المصريين الأحزان، ليس مكسور الجناح وعاجزاً عن ذلك مثلهم، فقد "تاهت ووجدناها"، فليعط الخبز للخباز، والحكم لأهله. فلا يزال مبارك على قيد الحياة، ولا يزال نجله الطامع في الحكم، والذي كان يحكم فعلا في العشر سنوات الأخيرة من حكمه، يمتلك نفس مهاراته السابقة، ولا تزال كوادر الحزب الوطني وأعضاؤه، بقيادة أحمد عز، ينتظرون الفرصة!
وقد فشل السيسي في أن يصل إلى الإنجاز الذي حققه نظام مبارك، فما الذي يمنع من تسليمهم الحكم!
لماذا لا يقتنع السيسي بأنه فاشل!