كانت الساعة تقترب من الثامنة من مساء يوم الاثنين الموافق 24
يناير/ كانون الثاني عام 2011، حين دلفت إلى نادي السيارات المصري، على بعد أمتار
من ميدان التحرير، لتناول العشاء بدعوة من الصديق علي مشرفة، وبصحبة شخصيات عامة
وأكاديمية، أذكر منهم حازم الببلاوي ومحمد أبو الغار وعمرو حمزاوي. ولأن اليوم
التالي كان يوافق «عيد الشرطة» الذي وقع عليه الاختيار للقيام بمظاهرة دعت إليها
مواقع شبابية للتواصل الاجتماعي، أبرزها موقع «كلنا خالد سعيد»، احتجاجا على
الممارسات القمعية للأجهزة الأمنية، فقد كان من الطبيعي أن يدور محور النقاش حول
الوضع السياسي العام في مصر.
ومن
المفارقات أنه لم يكن بمقدور أحدا ممن شاركوا في النقاش الذي دار طوال تلك الأمسية
التي لا تنسى، أن يتنبأ بالزلزال السياسي الذي كان على وشك الوقوع بعد سويعات
قليلة، ولم يكن يفصلنا عن الميدان الذي انطلق منه سوى أمتار محدودة.
اليوم،
وبعد مرور ثماني سنوات كاملة على هذا الحدث التاريخي الكبير، تبدو النخب السياسية
والفكرية المصرية في حالة يرثى لها من التشرذم وتبادل الاتهامات حول مسؤولية كل
منها عن الإخفاق الذي لحق بالثورة، وعن فشلها في التوافق على إقامة نظام بديل أكثر
ديمقراطية، وعن دورها في تسليم مقاليد السلطة إلى ثورة مضادة، نجحت في إقامة نظام
أكثر استبدادا وقمعا من النظام الذي كانت قد نجحت في إسقاط رأسه. فالتيار العلماني
ما يزال مقتنعا بأن تيار الإسلام السياسي يتحمل كامل المسؤولية عن هذا الفشل
لأسباب أهمها:
1- إن
الثورة، وليس فقط صناديق الاقتراع، هي التي مكنته من الفوز بأغلبية برلمانية
ساحقة، وحملت أحد رموز جماعة الإخوان إلى قمة هرم السلطة التنفيذية.
2- وبدلا
من التعاون مع القوى العلمانية التي فجّرت شرارة الثورة لاستئصال جذور النظام
القديم، راحت جماعة الإخوان تتحالف مع أكثر فصائل الإسلام السياسي تطرفا ورجعية
وقابلية للاختراق من جانب الثورة المضادة، كاشفة بذلك عن ميلها الغريزي للتعجيل
بإقامة «المشروع الإسلامي»، قبل تهيئة التربة السياسية لقبول الغرس الديمقراطي، ما
ساعد على إحداث شرخ طولي في صفوف قوى الثورة وولد إحساسا عميقا بالتهميش والغربة.
3- ارتكب
خطأين كبيرين بالإصرار، من ناحية، على إجراء الانتخابات البرلمانية قبل صياغة
دستور توافقي جديد تجرى على أساسه، وإقدام جماعة الإخوان، من ناحية أخرى، على خوض
الانتخابات الرئاسية بمرشح من صفوفها، بدلا من التوافق على مرشح تقبل به مختلف
القوى الثورية، ويكلف عقب ضمان فوزه بإدارة مرحلة انتقالية يتم خلالها التخلص من
بقايا النظام القديم.
أما
تيار الإسلام السياسي فما يزال بدوره مقتنعا بأن كراهية التيار العلماني للإسلام
ولنموذجه الحضاري، كان الدافع الرئيسي وراء إقدامه على الاستقواء بالمؤسسة
العسكرية والتحالف معها للانقلاب على الشرعية الدستورية، وبالتالي لا يرى في «حركة
تمرد» وفي «انتفاضة 30 يونيو» وفي «خريطة الطريق» التي أعلنها وزير الدفاع يوم 3
يوليو/تموز 2013 سوى مظاهر لا تخطئها العين، وأدلة قاطعة على تواطؤ هذا التيار .
ويكفي أن يتابع المرء ما تعج به ساحات التواصل الاجتماعي من تفاعلات ليدرك حجم
المرارة التي ما تزال عالقة في حلوق الغالبية الساحقة من أنصار التيار الإسلامي،
وقناعتهم التامة بأنه لولا تواطؤ التيار العلماني لما نجح الانقلاب العسكري في
الإطاحة بالمؤسسات المنتخبة ديمقراطيا.
فهؤلاء لا يعترفون مطلقا بارتكاب تيار الإسلام السياسي لأي أخطاء
تستدعي النزول إلى الشارع للمطالبة بانتخابات رئاسية، بعد عام واحد من وصول مرسي
إلى المقعد الرئاسي. كانت الأحداث والهزات السياسية التي شهدتها مصر على مدى
السنوات التي تلت زلزال يناير 2011 كاشفة، في تقديري، لجملة من الحقائق يمكن
إجمالها على النحو التالي:
أوان
خروج مصر من نفق المأزق السياسي الذي تعيشه منذ سنوات لم يحن بعد.
إن
جوهر الاستبداد واحد أيا كان نوع الغطاء الذي يضعه على رأسه (قبعة كانت أم عمامة
أم كاب).
ولأن كل نظام استبدادي إقصائي بالطبيعة، لأنه يقوم على استبعاد
وتهميش كل من لا يدينون له بالولاء التام، فمن الطبيعي أن يأكل نفسه وأن يعجز عن
إيجاد حلول تمكن من استقرار المجتمعات على المدى المتوسط أو الطويل، لذا فمصيره
الفشل والسقوط المحتوم طال الزمن أم قصر.
يستحيل
بناء الديمقراطية بدون ديمقراطيين حقيقيين. فالقوى التي يمكن وصفها
بـ«الديمقراطية» هي أقرب ما تكون إلى صالونات سياسية وفكرية عاجزة عن بناء جسور مع
الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة والفئات المهمشة اجتماعيا، وتبدو في واقع الأمر
محشورة بين قوتين منظمتين غير ديمقراطيتين هما جماعة الإخوان المسلمين والمؤسسة
العسكرية، الأمر الذي يفسر هشاشتها وانقساماتها المتكررة.
لا
تستطيع جماعة الإخوان أن تسهم إيجابيا في تأسيس نظام ديمقراطي في مصر، ما لم تقم
بتغيير جلدها كجماعة ترى في نفسها، وفقا لتعريف مؤسسها حسن البنا نفسه، «دعوة
سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية
وثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية». ذلك أن هذا التعريف يظهرها بمظهر
الجماعة التي تطرح نفسها كمجتمع «بديل» قوامه «الإسلام الصحيح»، في مواجهة المجتمع
القائم، الذي يتبنى من وجهة نظرها «إسلاما غير صحيح». وتلك رؤية تغرس فكرة تكفير
الآخر المختلف وتبررها. لذا ينبغي على جماعة الإخوان تقديم طروحات جديدة تقوم على
المواطنة وقبول الآخر المختلف سياسيا وفكريا ودينيا وتداول السلطة..الخ، إذا أرادت
اليوم إقناع الأغلبية الصامتة بأنها حسمت قرارها لصالح التحول الديمقراطي.
لن
يكون بمقدور المؤسسة العسكرية أن تسهم بدورها إيجابيا في تأسيس نظام ديمقراطي ما
لم تقتنع نهائيا بحتمية عودتها، إن عاجلا أو آجلا، إلى الثكنات وبأن وظيفتها
الوحيدة هي المحافظة على حدود وأمن الوطن في مواجهة الأطماع الخارجية. ولا توجد
حتى اللحظة مؤشرات تفيد بقرب حدوث هذا التحول الحاسم.
في
ضوء ما تقدم، يبدو لي أن أوان خروج مصر من نفق المأزق السياسي الذي تعيشه منذ
سنوات لم يحن بعد، ويحتاج إلى مراجعات جذرية من جانب كافة التيارات السياسية
والفكرية الرئيسية، التي لم تنضج بعد ولا توجد مؤشرات بعد على أن هذا النضج المطلوب
بات وشيكا. وفي تقديري أن فتح الطريق أمام كسر المعضلة لن يتحقق إلا بتهيئة مناخ
أفضل للحوار بين كافة القوى الراغبة حقا في التأسيس لدولة ديمقراطية مدنية حديثة
في مصر، وما لم تقم جماعة الإخوان المسلمين بتذليل العقبات التي تحول دون انخراطها
بجدية وإخلاص في العمل على تحقيق تلك المهمة المقدسة.
عن صحيفة القدس العربي