مبادرات "المصالحة" يُقصد بها، كما سبقت الإشارة في المقال الأول، كافة الأفكار والتحركات السياسية والدبلوماسية التي استهدفت البحث عن مخرج للأزمة السياسية التي مرت بها مصر، خاصة منذ حزيران/ يونيو 2013، وهي أفكار أو تحركات طرحتها أو قامت بها أطراف عديدة مختلفة الأهداف والدوافع وفي توقيتات مختلفة.
ويمكن تصنيف هذه المبادرات، من حيث التوقيت، إلى نوعين، الأول: طرح أو ظهر قبل فض اعتصامي رابعة والنهضة، وهو حدث بالغ الأهمية كان له تأثير بالغ الخطورة على مسار الأزمة، والثاني: طرح أو ظهر عقب حدث الفض مباشرة أو توالى طرحه تباعا على مدى الأعوام الخمسة المنصرمة.
كما يمكن تصنيف هذه المبادرات، من حيث مصادرها، إلى مبادرات خارجية، تعكس مواقف أو وجهات نظر قوى دولية بعينها، وأخرى داخلية، تعكس المواقف الفردية لشخصيات سياسية أو حزبية بعينها.
مبادرات ما قبل فض رابعة
يُلاحظ على المبادرات التي طرحت قبل فض اعتصامي رابعة والنهضة؛ أنها أخذت إما شكل تحركات دبلوماسية من جانب جهات دولية معينة، كالاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، استشعرت القلق إزاء ما حدث وخشيت من عواقبه المحتملة على الاستقرار في مصر وربما في المنطقة ككل، أو من جانب شخصيات عامة مصرية بدت قريبة من التيار الإسلامي؛ لكنها لم تكن منخرطة تنظيميا في أي من فصائله، كالمستشار فؤاد جاد الله، والذي كان قد شغل منصب المستشار القانوني للدكتور مرسي، والدكتور هشام قنديل والذي شغل منصب رئيس الوزراء في عهد مرسي أيضا، والدكتور محمد سليم العوا، والذي كان قد رشح نفسه في الانتخابات الرئاسية كأحد الشخصيات المستقلة المحسوبة على التيار الإسلامي، ومعه كل من المستشار طارق البشري والدكتور محمد عمارة.. إلخ.
المبادرات التي غلب عليها طابع التحركات الدبلوماسية عكست هواجس متباينة: فبينما أخذت التحركات الأوربية شكل "الوساطة" بين النظام الجديد وجماعة الإخوان، بدا التحرك الأفريقي أقرب ما يكون إلى "بعثة تقصي حقائق" منها إلى محاولة للوساطة بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان.
ومن المعروف أن الاتحاد الأفريقي كان قد قرر تجميد عضوية مصر عقب إلقاء القبض على الرئيس المنتخب، وأوفد لجنة للاستماع إلى وجهة نظر الأطراف المختلفة وكتابة تقرير عن حقيقة ما جرى في مصر؛ تمهيدا للعرض على المؤسسات المعنية لتقرر ما تراه بشأن قرار التجميد.
يلفت النظر هنا أن الاتحاد الأوربي بدا حريصا على عدم إصدار بيان رسمي يوضح مضمون المقترحات التي طرحها موفدوه أو رد فعل المسؤولين المصريين عليها، غير أن تقارير صحفية أشارت إلى أن هذه المقترحات تمحورت حول الإفراج عن اثنين من رؤساء الأحزاب السياسية، هما الدكتور سعد الكتاتني، رئيس حزب الحرية والعدالة ورئيس مجلس الشعب المنحل، والمهندس أبو العلا ماضي، رئيس حزب الوسط، بضمانات دولية، على أمل تسهيل عملية التفاوض بين الطرفين مستقبلا حول سبل إنهاء الأزمة، في مقابل التزام الجماعة بفض اعتصامي رابعة والنهضة سلميا.
كما يلفت النظر أيضا عدم إفصاح البعثة الأفريقية عن فحوى الاستنتاجات التي خلصت إليها عقب اللقاءات التي أجرتها بالأطراف المختلفة في القاهرة، غير أن استمرار العمل بقرار تجميد عضوية مصر في الاتحاد بعد إنهاء البعثة لمهمتها في القاهرة حمل في طياته إيحاءات خاصة قبل أن يتم إلغاء القرار لاحقا.
أما المبادرات الفردية التي طرحت قبل فض الاعتصام فيمكن القول إجمالا أنها صدرت عن شخصيات عامة، سياسية أو حزبية أو أكاديمية، بدت متعاطفة مع تيار الإسلام السياسي.
ورغم التباين الكبير بين مضمونها، إلا أنه كان بينها قواسم مشتركة، أهمها:
1- إجراء استفتاء شعبي حول خارطة الطريق الجديدة.
2- قيام الدكتور مرسي، عقب الإفراج عنه، بتفويض معظم صلاحياته لرئيس وزراء مستقل تتوافق عليه القوى السياسية المختلفة.
3- تسوية الأزمة على مراحل تبدأ بفترة للتهدئة، يتم خلالها فض الاعتصام والاتفاق على إجراءات لبناء الثقة، تبدأ بتشكيل لجنة للتحقيق في أحداث العنف التي ارتكبت منذ ثورة يناير ومحاكمة المسؤولين عنها والإفراج عن المعتقلين الذين لم يثبت ارتكابهم لأي جرائم، وتنتهي بالاتفاق على خارطة طريق جديدة تبدأ بانتخابات برلمانية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الدكتور هشام قنديل أذاع، عقب رفض مبادرته التي أطلقها يوم 25 تموز/ يوليو 2013، شريطا مسجلا قال فيه إن الدكتور مرسي: "لم يكن يمانع من إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وأنه تبنى موقفا مرنا وليس رافضا للفكرة من حيث المبدأ، لكنه كان يفضل أن تتم الانتخابات الرئاسية الجديدة عقب الانتخابات البرلمانية التي كان يجري الاستعداد لعقدها في شهر أيلول/ سبتمبر التي كان يفترض أن يعقبها تشكيل حكومة جديدة تجنبا لأي فراغ دستوري...".
مبادرات ما بعد فض رابعة
طرأ تغير كبير على المشاعر والأمزجة عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة وسقوط مئات الضحايا، حيث أحس كثيرون بأن الأزمة تتجه نحو التصعيد الذي لن ينجم عنه سوى المزيد من العنف وسفك الدماء.
ولم يكن هذا الإحساس قاصرا على الأوساط الشعبية وحدها، وإنما امتد ليشمل بعض الأوساط الرسمية أيضا، بدليل إقدام الدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء في ذلك الوقت، على طرح مبادرة في 21 آب/ أغسطس، أي بعد أسبوع واحد من فض الاعتصام، تضمنت 12 بندا أهمها: نبذ العنف، استكمال خارطة الطريق بما يضمن مشاركة كل القوى السياسية، رفض العزل والإقصاء.. إلخ.
وقد اتضح لاحقا أن الدكتور زياد بهاء الدين لم يتشاور مسبقا حول مبادرته مع أحد، سواء مع رئيس الدولة أو مع رئيس الحكومة الذي علق عليها قائلا: "إنها مبادرة جيدة لكن الوقت غير مناسب"، الأمر الذي لم يكن له سوى معنى واحد، وهو رفضها ضمنيا وتسبب في تقديم الدكتور زياد لاستقالته التي قبلت على الفور.
ثم توالت المبادرات على مدى الأعوام الخمسة اللاحقة، سواء من جانب أحزاب سياسية، كحزب البناء والتنمية وحزب البديل الحضاري، أو من جانب شخصيات عامة، كالدكتور أحمد كمال أبو المجد والدكتور سعد الدين إبراهيم، وغيرهم كثيرون.
ولأن المقام لا يتسع هنا لعرض تفصيلي للأفكار التي تضمنتها هذه "المبادرات"، نكتفي هنا بالإشارة إلى أن معظمها ركز على اقتراح "حلول نظرية" من عندياته، عكست طريقة أصحابها في التفكير، بينما ركز بعضها الآخر على اقتراح "آليات" للمساعدة على التوصل إلى تسوية للأزمة تنبع من الأطراف المعنية نفسها إن أمكن جمعها حول طاولة للتفاوض.
ولأنني كنت أحد الذين طرحوا أفكارا تتعلق بأليات حل الأزمة المصرية، فسأكتفي بإدراج نص الورقة التي كتبتها حول هذا الموضوع كملحق، وكنموذج في الوقت نفسه لما تضمنته المبادرات الفردية من مقترحات.
وقد حملت هذه الورقة عنوان "الأزمة والمخرج"، وكتبت بتاريخ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2013 (بناء على طلب اللواء محمد العصار، مساعد وزير الدفاع في ذلك الوقت ووزير الانتاج الحربي حاليا، إثر مكالمة تلفونية تمت بمبادرة مني للتنبيه إلى عدم ملاءمة أو كفاية الحلول الأمنية للتعامل مع أزمة سياسية كانت في طريقها للتصاعد عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة)، ونشرت في الصحف في شباط/ فبراير 2014، حين تيقنت أن الأفكار التي تضمنتها لم تلق الترحيب أو الحماس الكافي من جانب المسؤولين، وأثار نشرها جدلا واسعا وقتها وعرضني لهجوم شديد القسوة وصل إلى حد وصفها من جانب البعض بأنها تهدف إلى "إنقاذ جماعة الإخوان وتدمير الدولة المصرية".
نص الورقة التي أرسلتها للسيد اللواء محمد العصار في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2013، بناء على طلبه، ونُشرت في العديد من الصحف المصرية في شباط/ فبراير 2014، وتعاملت معها مختلف وسائل الإعلام باعتبارها "مبادرة للمصالحة مع الإخوان".
الأزمة والمخرج
1- جذور الأزمة
1- تعيش مصر حاليا أزمة سياسية مركبة هي نتاج تراكم أخطاء فادحة ارتكبتها النخب التي تعاقبت على إدارة الدولة بعد نجاح ثورة يناير في إسقاط مبارك. ورغم التباين الفكري والسياسي بين هذه النخب، خاصة تلك التي تولت مسؤولية إدارة الدولة منذ ذلك الحين، إلا أنها فشلت حتى الآن في تأسيس نظام بديل أكثر فاعلية، وأقل فسادا، وقابل للدوام والاستقرار. لذا تبدو المرحلة الانتقالية في مصر، والتي طالت بأكثر مما ينبغي، مفتوحة بلا حدود ودون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى نهاية سعيدة وشيكة.
2- فقد تسلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة الدولة في 11 شباط/ فبراير 2011 بقرار من رئيس أجبر على التنحي، غير أن المجلس ارتكب سلسلة من الأخطاء أفضت إلى تسليم السلطة إلى رئيس منتخب، ولكن بعد أسابيع قليلة من قرار حل مجلس الشعب الذي سيطر عليه تيار "الإسلام السياسي"، وقبل أن تتمكن جمعية تأسيسية سيطر عليها نفس التيار من صياغة دستور جديد للبلاد.
3- وبدلا من العمل على إعادة الوئام إلى مجتمع بدا منقسما بشدة على نفسه، تصرف الرئيس المنتخب كممثل لجماعة يسعى لتمكينها من الهيمنة المنفردة على مفاصل الدولة، فأصدر "إعلانا دستوريا" حصن بموجبه جمعية تأسيسية افتقد تشكيلها للتوازن ومكنها من صياغة دستور على مقاس التيار الذي ينتمي إليه، كما حصن بموجبه أيضا مجلس الشورى الذي كان بدوره معرضا للحل، وأسند إليه الدستور سلطة تشريع لم يكن مؤهلا لها ولم ينتخب أصلا للقيام بها، مما أدى في النهاية إلى خروج جماهير غفيرة إلى الشوارع للمطالبة بسحب الثقة من الرئيس بعد عام واحد من انتخابه. ولأن الجيش خشي من اندلاع حرب أهلية، فقد قرر التدخل والانحياز إلى إرادة الجماهير المطالبة بسحب الثقة من الرئيس، وقام بعزله فعلا بموجب "خارطة طريق جديدة" تم الاتفاق عليها بالتشاور مع عدد من القوى السياسية والرموز الدينية والشخصيات العامة الداعمة لهذا التوجه.
4- بعزل الرئيس المنتخب دخلت البلاد طورا جديدا من أطوار مرحلة انتقالية ممتدة يفترض أن تصل إلى غايتها عبر ثلاث محطات رئيسية حددتها خارطة الطريق الجديدة على النحو التالي: صياغة دستور جديد للبلاد تجرى على أساسه انتخابات برلمانية لاختيار أعضاء الهيئة التشريعية وتختتم بانتخابات رئاسية لاختيار رئيس جديد للبلاد. غير أن الطريق الذي رسمت خارطة الطريق الجديدة معالمه لا يبدو معبدا بما يكفي لضمان سلامة القافلة ووصولها بأمان إلى محطتها النهائية.
2- إشكالياتها
تواجه السلطة المسؤولة عن إدارة البلاد في المرحلة الراهنة تحديات تختلف نوعيا عن تلك التي واجهت السلطة المسؤولة عن الإدارة في المرحلتين السابقتين، وذلك من منظورين رئيسيين:
الأول: يتعلق بالشرعية: فلم يسبق لأي جهة في الداخل أو في الخارج أن شككت في شرعية السلطة الحاكمة، سواء في المرحلة الانتقالية الأولى التي تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسؤولية إدارتها، أو في المرحلة الانتقالية الثانية التي تولى الدكتور مرسي وجماعته مسؤولية إدارتها، رغم انتقادات عديدة تصاعدت بمرور الوقت ووصلت ذروتها في نهاية كل مرحلة. أما السلطة التي تتولى مسؤولية إدارة المرحلة الراهنة فتشكك في شرعيتها قوى محلية وإقليمية ودولية عديدة، وترى أنها جاءت عبر انقلاب عسكري يتعين إسقاطه وإزالة كل ما ينجم عنه.
الثانية: تتعلق بوسائل إدارة الصراع: حيث يتنامي الاتجاه نحو استخدام مفرط للعنف في مواجهة الخصوم. فقد سقط في عملية فض اعتصامي رابعة والنهضة مئات القتلى والجرحى، وتحولت سيناء إلى ساحة حرب حقيقية يخوضها الجيش المصري وأجهزة الأمن معا ضد جماعات إرهابية مسلحة متحالفة مع القوى التي أبعدت عن سلطة الحكم، بل إن الجبهة الداخلية باتساع مصر كلها أصبحت أشبه بساحة للكر والفر بين معسكرين يسعى كل منهما لكسر إرادة الآخر وإملاء شروطه كاملة عليه، فسالت دماء غزيرة وامتلأت السجون بالمعتقلين.
في سياق كهذا تبدو الأزمة الراهنة وكأنها صراع حول الشرعية يدار بوسائل عنيفة. فكل طرف يعتقد أن الشرعية في جانبه، وأنه يملك من الوسائل ما يضمن له حسم الصراع لصالحه في نهاية المطاف. إذ يبدو واضحا أن الطرف الذي يمارس سلطة الأمر الواقع يعتقد أنه يمارسها بتفويض من أغلبية شعبية عبرت عن نفسها بوضوح من خلال الملايين التي خرجت إلى الشوارع في 30 حزيران/ يونيو ثم 26 تموز/ يوليو، كما يعتقد أنه يملك من الوسائل ما يمكنه من فرض إرادته بقوة القانون الذي تحميه سلطة الدولة وأجهزتها الأمنية.
كما يبدو واضحا أيضا أن الطرف الآخر يتصرف انطلاقا من قناعته التامة بأن الشرعية في جانبه لأنه وصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وأزيح عنها بقوة السلاح عبر انقلاب عسكري لا شرعية له، وبالتالي فمن حقه مقاومة السلطة الانقلابية والعمل على استعادة سلطته الشرعية بكل الوسائل الممكنة، والتي يعتقد أنه يملك منها ما يكفي لتمكينه من فرض إرادته في النهاية.
والواقع أننا إذا ألقينا نظرة فاحصة على موازين القوة على الأرض، فربما نصل إلى نتيجة مفادها استحالة حسم الصراع لصالح جماعة الإخوان والقوى المتحالفة معها، خصوصا حين تؤكد "عدم قبولها بأقل من عودة الرئيس المعزول والدستور المجمد ومجلس الشورى المنحل".
ولا شك في أن الإصرار على هذه المطالب يعني أن الجماعة وحلفاءها يعيشون حالة انفصام مزمن عن الواقع، ولم يستوعبوا بعد حجم التراجع الذي طرأ على تأييد الجماهير لها وتخلي الحاضنة الشعبية عنها. ومع ذلك، ففي تقديري أن النظام الذي يحكم مصر حاليا سيرتكب خطأ قاتلا إن اعتقد أن بإمكانه استئصال الطرف الآخر اعتمادا على الوسائل الأمنية وحدها. فما زال هذا الطرف، في تقديري، قادرا على خوض حرب استنزاف طويلة الأمد قد تنجح في إفشال خارطة الطريق، وذلك بالاعتماد ليس فقط على قواه الذاتية في الداخل والخارج، والتي ما تزال كبيرة رغم حملات القمع والاعتقالات، ولكن أيضا باستغلال نقاط ضعف وأخطاء السلطة الحالية.
وما لم يتمكن طرفا الصراع من إيجاد مخرج للأزمة الحالية، فسوف يطول أمده إلى الدرجة التي قد تهدد بتفسخ الدولة وانهيارها فوق رؤوس الجميع. لذا أعتقد أن البحث عن مخرج بات واجبا وطنيا تقع مسؤوليته على الجميع.
3- بحثا عن مخرج
تتوقف إمكانية العثور على مخرج ملائم على مدى توافر الاستعداد لدى الأطراف المعنية للتخلي عن منهج "إدارة الأزمة" واستبداله بمنهج "حل الأزمة". فمن المعروف أن منهج إدارة الأزمة يقوم على حشد وتعبئة وتوجيه طاقات كل طرف لإلحاق أكبر ضرر ممكن بالخصم، إلى أن يفقد الأمل في قدرته على مواصلة الصراع ويصبح مهيأ للاستسلام لشروطه.
أما منهج "حل الأزمة" فينطلق من اقتناع الطرفين بأن استمرار الصراع بينهما قد يلحق الأذى بالجميع حتى لو حسم في النهاية لصالح أحدهما، وبأن تقديم تنازلات متبادلة أصبح السبيل الوحيد للتوصل إلى حل وسط يمكن البناء عليه لإنقاذ مستقبل الوطن ككل.
ولأن الدولة المصرية تواجه في المرحلة الراهنة طرفا يبدو شديد الاقتناع بأن الواجب الديني يفرض عليه مقاومة السلطة الجائرة وأن مقاومتها هي السبيل الوحيد في الوقت نفسه للحيلولة دون استئصاله كليا وإخراجه نهائيا من الساحة، على السلطة القائمة فيها أن تبادر باتخاذ الخطوة الأولى في اتجاه المصالحة والعمل على بناء ما يكفي من جسور الثقة لإقناع هذا الطرف بأنها لا تنوي استئصاله، وأنه شريك مرحب به في بناء مستقبل الوطن، ولكن في ظل قواعد عامة ومبادئ يتعين أن يلتزم بها الجميع.
غير أنه يتعين الانتباه في الوقت نفسه إلى أن الأزمة بين الطرفين وصلت بالفعل إلى درجة كبيرة من التعقيد، خصوصا وأنها باتت تتعلق بقضايا الشرعية والدم، ومن ثم يستحيل معالجتها بحلول تقليدية أو دفعة واحدة أو خلال فترة زمنية قصيرة. ومن هنا (تأتي) ضرورة البحث عن حلول مبتكرة، ومتدرجة، والتحلي بالكثير من الصبر والكتمان والبعد التام عن وسائل الإعلام. لذا أقترح ما يلي:
1- تشكيل لجنة حكماء محدودة العضوية تضم بعض كبار المفكرين، ويفضل أن تكون مطعمة ببعض القريبين من مراكز صناعة القرار، للاتفاق على مبادئ وقواعد عامة يتعين على جميع الأطراف الالتزام بها لتكون بمثابة بوصلة موجهة للسلوك ودليل عمل للمستقبل.
2- تعيين وسيط محايد يحظى بقبول طرفي الصراع (قد يكون شخصا واحدا ولا يتعين أن يزيد عن ثلاثة أشخاص)، تكون مهمته إجراء المفاوضات والاتصالات اللازمة لترجمة القواعد والمبادئ العامة التي تم الاتفاق عليها إلى آليات وبرامج زمنية لتفكيك وحل الأزمة؛ تكون قابلة للتطبيق على الأرض.
وفي تقديري أنه يتعين أن تتناول المفاوضات بحث سبل التوصل إلى:
أ- هدنة للتهدئة تستهدف وقف المظاهرات والاحتجاجات والقصف الإعلامي المتبادل، مقابل الإفراج عن القيادات التي لم يثبت تورطها في جرائم يعاقب عليها القانون.
ب- اتفاق على تشكيل لجنة تقصي حقائق محايدة ومقبولة من الجميع للتحقيق في أعمال العنف التي وقعت منذ 25 يناير وحتى يومنا هذا، على أن تنتهي اللجنة من تقريرها خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر.
ج- البحث عن آلية لتحقيق التوافق حول الدستور الذي يتم إعداده الآن.
د- البحث عن آلية تضمن مشاركة الجميع في الانتخابات البرلمانية ثم في الانتخابات الرئاسية.
يعمل الوسيط (أو الوسطاء) تحت إشراف لجنة الحكماء، ويعرض عليها تقارير دورية عن تقدم المفاوضات والعقبات التي تعترض طريقها كي يصبح في مقدور اللجنة متابعة ما يجري وبحث سبل تذليل ما يستجد من عقبات.
كما أقترح أن يكون تشكيل لجنة الحكماء على النحو التالي:
1- الأستاذ محمد حسنين هيكل، رئيسا
2- المستشار طارق البشري
3- الدكتور محمد سليم العوا
4- الأستاذ فهمي هويدي
5- الدكتور جلال أمين
6- الدكتور زياد بهاء الدين
7- الدكتور مصطفى حجازي
وسوف يسعد كاتب هذه السطور أن يكون عضوا في هذه اللجنة وأن يقوم من خلالها، أو من خلال أي آلية أخرى، بأي دور ترى القيادة السياسية أنه يمكن أن يكون مفيدا للبحث عن مخرج من أزمة تشعرني شخصيا بقلق بالغ على مصير الوطن.
ولمزيد من الإيضاح حول المبادئ والقواعد العامة التي يفترض أن تناقشها وتقرها لجنة الحكماء، أقترح الموضوعات التالية، على سبيل المثال وليس الحصر:
1- تخلي كافة الأطراف عن استخدام أو التهديد باستخدام العنف بكافة أشكاله تحت أي ظرف من الظروف.
2- نبذ الإرهاب والتنديد به وفك الارتباط مع كل من يلجأ إليه، والانخراط النشط في وسائل وآليات يتفق عليها لمكافحته.
3- تجريم كل فعل وقول يكفر أو يخون الآخر أو يحرض على الكراهية وبث الفتنة الطائفية.
4- قصر النشاط الدعوي على المؤهلين علميا وبتصريح من الأزهر الشريف.
5- حق كل التيارات، أيا كانت مرجعيتها الفكرية، في تشكيل أحزابها السياسية وممارسة النشاط السياسي وفق قواعد مجتمعية عامة تتسم بالشفافية والقابلية للمساءلة القانونية والسياسية.
6- إخراج أحكام الشريعة الإسلامية من حلبة المزايدات السياسية، بالعمل على التطبيق الفعلي لهذه الأحكام من خلال اقتراح تعديلات محددة على قوانين يعتقد أنها تنطوي على شبهة تعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، ووفقا للآليات التشريعية المعمول بها في الدستور.
والله الموفق وعليه قصد السبيل.
القاهرة في 17/10/2013
مبادرتي للمصالحة.. بين الحال والمآل
مبادرات "المصالحة" في مصر: جذور وسمات الأزمة (1)