كان الإجماع الفلسطيني على رفض «صفقة القرن» أمرا لافتا للنظر ومحملا بالدلالات، خاصة أنه لم يسبق للفلسطينيين طوال تاريخهم السياسي الحافل أن توحدوا شعبيا ورسميا على قضية، مثلما يتوحدون الآن على رفضهم القاطع لتلك «الصفقة».
صحيح أنه كان رفضا متوقعا، على الأقل من جانب الفصائل التي تتبنى نهج المقاومة، غير أن تبني السلطة الفلسطينية لهذا التوجه الرافض للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية، وبمثل هذا الإصرار العنيد، ليس له سوى معنى واحد وهو أن «الصفقة» المعروضة حاليا بلغت من «الصفاقة» حدا يجعلها تبدو وصمة عار تلحق بجبين كل من يقبل الاقتراب منها، أو التعاطي معها على أي وجه من الوجوه، كما جعل كل من يجرؤ على تبريرها أو الترويج لها، خاصة حين تكون له صفة رسمية داخل أي من الهياكل التنظيمية التابعة للسلطة أو للفصائل، يبدو خائنا لوطنه وعميلا لحساب القوى الساعية لتصفية قضيته.
وفي تقديري أن بوسع أي متابع لما يجري على الساحة الفلسطينية إدراك حقيقة، تبدو الآن بديهية، وهي أن الوعي الجمعي بخطورة المنعطف الذي تمر به القضية الفلسطينية وصل إلى الدرجة التي جعلت الشعب الفلسطيني مصمما على عدم التماس الأعذار لكل من يقبل أن يرتبط اسمه بهذه الصفقة، أيا كان موقعه، الأمر الذي يفرض على كل مكابر، كائنا من كان، فلسطينيا كان أم عربيا، أن يسلم بهذه الحقيقة، وأن ينأى بنفسه بعيدا عن صفقة أصبحت سيئة السمعة، ومثيرة لكل أنواع الشبهات.
أسباب عديدة وبديهية تدفع الشعب الفلسطيني للتوحد التام حول الموقف الرافض لهذه الصفقة جملة وتفصيلا، بعضها يتعلق بتأثير الصفقة على مستقبل الشعب الفلسطيني نفسه ومستقبل قضيته التي قدّم في سبيلها التضحيات الجسام، وبعضها الآخر يتعلق بتأثيرها على الأوضاع السائدة في المنطقة العربية، وبعضها الثالث يتعلق بالمحاولات الرامية لاستخدامها أداة الصراع الدائر بين القوى الكبرى للسيطرة على المنطقة، أو حتى على النظام العالمي ككل.
ففيما يتعلق بتاثير الصفقة على مستقبل الشعب الفلسطيني، أعتقد أن كل فلسطيني، أيا كان موقعه أو الفصيل الذي ينتمي إليه، أصبح يدرك الآن، وبوضوح تام، أن القبول بهذه «الصفقة» يعني: 1- الإقرار بأن فلسطين وطن قومي وتاريخي لليهود وحدهم، وليس لغيرهم أي حقوق فيه أو عليه. 2- وأن من بقي من الفلسطينيين على أرض هذا الوطن، سواء في المناطق التي تم احتلاها إبان حرب 48 أو بعدها، هم مجرد «ضيوف» قد يتعامل معهم صاحب البيت الجديد بنوع من الكرم والأريحية، لأسباب إنسانية وأخلاقية، لكنهم لا يتمتعون في مواجهته بأي حقوق قانونية أو سياسية، ومن ثم فليس أمامهم من خيار آخر سوى القبول بما قد يلقية عليهم من فتات، أو الرحيل بعيدا ونهائيا عن هذه الأرض. 3- لا يحق لأي فلسطيني أجبر على ترك وطنه في اي مرحلة من مراحل الصراع أن يطالب بالعودة إليه أو بالتعويض عما يكون قد فقده فيه.
في سياق كهذا، يمكن القول إن الشعب الفلسطيني أصبح على قناعة تامة بأن «صفقة القرن» لا تمثل حلا لقضيته، وإنما محاولة مكشوفة ومفضوحة لتصفيتها سياسيا، من خلال التعامل معها كقضية إنسانية تتطلب من الدول المجاورة، خاصة تلك التي تتواجد فيها أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، أن تتعاون مع المجتمع الدولي للتخفيف من معاناتهم، سواء عبر إقامة مشروعات اقتصادية وإنمائية لاستيعاب العاطلين منهم، والسعي لتحسين المستوى المعيشي للجميع، و/أو بالعمل على إدماجهم في النسيج الاجتماعي للدول التي هاجروا إليها، وتمكينهم من التمتع بجنسية هذه الدول. صحيح أن بعض ما نشر عن «صفقة القرن» يشير إلى أنها تتضمن إنشاء «فلسطين جديدة»، يفترض أن تقام على قطاع غزة وعلى 40% من مساحة الضفة الغربية، وأن يربط بينهما جسر علوي، لكنها لن تكون أبدا دولة ذات سيادة، أو حتى «شبه دولة»، ولن يعترف لها بالسيادة على كامل الأرض والشعب، ولن تكون لها حدود جغرافية واضحة ومعترف بها، وإنما ستكون مجرد «كيان» يتمتع بوضع خاص ويتعين عليه أن يرتبط أمنيا بإسرائيل، وأن يرتبط اقتصاديا واجتماعيا بالدول العربية المجاورة.
وفي ما يتعلق بتأثير «صفقة القرن» على الأوضاع العربية، يبدو أن الشعب الفلسطيني بدأ يستشعر أنها صممت ليس فقط لمحاصرته عربيا، وإنما أيضا لإعادة هندسة المنطقة سياسيا وأمنيا في الوقت نفسه، خاصة أنها تحولت الآن إلى آلية لابتزاز دول الخليج العربي، ماليا وسياسيا وأمنيا. ماليا: بإجبارهم على تحمل العبء الأكبر من تكلفتها المالية، وسياسيا وأمنيا: بدفعهم للتحالف مع إسرائيل في مواجهة «الخطر الإيراني المشترك»، والتخلي بالتالي عن القضية الفلسطينية التي كانت تعد يوما ما «قضية العرب الأولى». وفي تقديري أنه يسهل على أي متابع لمسار الأحداث في المنطقة أن يكتشف أن اللبنة الأولى في صفقة القرن وضعت حين جرى تحريض السعودية على المطالبة بأن تكون لها السيادة المنفردة على جزيرتي تيران وصنافير، وهو ما تحقق بالفعل رغم ما تركته هذه القضية من آثار سلبية هائلة على الداخل المصري، وعلى مستقبل العمل العربي المشترك.
فقد ترتب على نقل السيادة على هاتين الجزيرتين إلى السعودية: 1- تحويل مضيق تيران إلى ممر مائي دولي، بعد أن كان ممرا يقع داخل المياه الإقليمية المصرية ويخضع بالتالي للسيادة المصرية المنفردة. 2- فتح الطريق أمام السعودية لتصبح طرفا غير مباشر في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، حيث طلب من وزير خارجيتها التوقيع رسميا على خطاب يؤكد فيه التزام بلاده باحترام الترتيبات الأمنية المفروضة على جزيرتي تيران وصنافير بموجب هذه المعاهدة، باعتبارهما جزءا لا يتجزأ من المنطقة ج. 3- تحويل الأراضي الواقعة على جانبي خليج العقبة إلى منطقة تعاون وتكامل اقتصادي بين كل من مصر وإسرائيل والسعودية والأردن، وهو ما جسده بوضوح تام «مشروع نيوم» الذي ارتبط باسم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. ومن شأن هذه الترتيبات أن تفاقم من إحساس الشعب الفلسطيني بأنه ترك وحيدا في مواجهة مصيره وتم حشره في الزاوية.
أما على الصعيدين الإقليمي والدولي فيمكن القول إن الشعب الفلسطيني بدأ يدرك أن «صفقة القرن» تستخدم الآن كأداة في يد القوى الطامحة في الهيمنة على المنطقة، سواء من داخل المنطقة أو من خارجها. ولأن الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان حاليا لإعادة هندسة المنطقة سياسيا وأمنيا، بما يسمح للأولى باستعادة نفوذها السياسي المنفرد، وللثانية بفرض هيمنتها الأمنية المطلقة، وهو ما لا يمكن ان يتحقق إلا بإلحاق هزيمة عسكرية بإيران تؤدي إلى تغيير نظامها السياسي، فمن الطبيعي أن تتشابك قضايا المنطقة، وأن تترابط عضويا. غير أن الشعب الفلسطيني بات يدرك في الوقت نفسه أنه لا مصلحة له في الانخراط في هذا المحور أو ذلك، ولا في الانحياز لهذا الحلف أو ذاك، وأن هدفه الأساسي يجب ان ينحصر في انقاذ مستقبله، وفي الحيلولة دون تصفية قضيته، الأمر الذي يفرض عليه إعادة النظر في مجمل السياسات التي انتهجها حتى الآن والبحث عن انطلاقة للحركة الوطنية الفلسطينية، فهل يستطيع؟
في تقديري أن أي انطلاقة جديدة وفعالة للحركة الوطنية الفلسطينية يجب أن تضمن قدرتها على تحقيق الأهداف التالية: 1- توحيد صفوف الشعب الفلسطيني، بصرف النظر عن المكان الذي يقيم فيه أو يعيش عليه: داخل الخط الأخضر، في الضفة الغربية، في قطاع غزة، في مخيمات اللاجئين المتناثرة في كل مكان، خاصة في الأردن وبقية الدول العربية المجاورة، أو حتى في المنافي والشتات. 2- رفع شعار تحرير فلسطين التاريخية الممتدة من البحر إلى النهر، والعمل على تحقيق هذا الهدف بكل الوسائل المتاحة، بما فيها المقاومة المسلحة، وإبداء الاستعداد للتعايش مع كل من يرغب من اليهود في إقامة دولة فلسطينية موحدة يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية. 3- تشكيل قيادة موحدة للحركة، بجناحيها السياسي والعسكري، تكون ممثلة لكافة شرائح الشعب الفلسطيني، ولها هياكل تنظيمية تتمتع بالمرونة الكافية لضمان تجديد دماء النخبة الحاكمة، من ناحية، والتاقلم مع الأوضاع الدولية والإقليمية المتغيرة، من ناحية أخرى، ولكن بدون التخلي عن الثوابت الوطنية.
إذا لم ينجح الشعب الفلسطيني في إعادة الحياة للحركة الوطنية الفلسطينية وفي إعادة صياغة أهدافها وهياكلها التنظيمية على أسس جديدة وفعالة، فسوف تصعب عليه مواجهة الصفقة التي تستهدف تصفية قضيته، وسيكون عليه من ثم تحمل نصيبه من المسؤولية. ولا يخالجني أي شك في أن نجاح الجهود الرامية لإعادة تشكيل الحركة الوطنية وصياغة أهدافها على النحو المشار إليه آنفا، سيشكل الرافعة الأهم لانتشال العالم العربي من الهوة العميقة التي سقط فيها.
عن جريدة القدس العربي اللندنية