لا يزايد عليَّ أحد في الموقف من الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر!
لقد كتبت نقداً لاذعا له عندما كان يشغل موقع رئيس جامعة الأزهر، وحالت الأجهزة الأمنية دون إجراء انتخابات الاتحادات الطلابية بالجامعة، وإذ قام الطلاب المنتمون لجماعة الإخوان المسلمين، بتحدي الملل في الاعتصام الذي نظموه احتجاجاً على ذلك، باستعراض للعبة الكاراتية، تم الدفع بالخبر لصدر الصفحة الأولى لجريدة "المصري اليوم" بعنوان بارز بأنهم يخططون لقلب نظام الحكم، وكان هذا تمهيداً للقبض عليهم ومطاردتهم في المدينة الجامعية، وبدا الشيخ موافقاً، لأنهم لم يسمعوا له عندما طالبهم بالتهدئة!
اندفع السيسي متبنيا فكرة أعجبته لأنه رأى أصداءها في الصحافة الإسرائيلية، وهى تجديد الخطاب الديني،
وكتبت ضده عندما تم اختياره شيخاً للأزهر، ورأيت أنه بحكم الانتماء الحزبي كعضو في لجنة السياسات لا يصلح للمنصب، ثم اشتد نقدي له، عندما رفض الاستقالة من اللجنة ومن الحزب، إلى حين عودة الرئيس مبارك من رحلة العلاج في الخارج، وكنت أرى في هذا إثبات للانتماء الحزبي أكثر مما ينبغي، في موقع لا يجوز فيه سوى الاستقلال عن السلطة، ولو من الناحية الشكلية.
وكتبت أنتقد الإخوان عندما بدوا لي في لجنة الدستور، وقد أقدموا على فكرة العزل السياسي، أنهم يعملون حساباً لشيخ الأزهر، فخرج النص الدستوري ركيكا، حتى لا يشمل الشيخ!
سلالة الشيخ جاد
وكان لي موقف ضده عندما ظهر في مشهد الانقلاب العسكري، وصلت وجلت في الهجوم عليه، وهو الانقلاب الذي تجرأ على حرمة الدماء، وأوغل في دماء
المصريين، ونكل بهم، لكن ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا!
فالحقيقة، أننا نغفل الجانب المهم في شخصية الرجل، فالصعيدي (والشيخ صعيدي أصيل) يخفض جناح الذل من الرحمة، لمن ينزلوه منزلته، ولهذا كان موقفه المنحاز لمبارك، حتى وإن كان فيه ما يخل بقيمة منصب كبير واستقلاله المفترض، ثم إنه كان من سلالة ارتقت بالذات إلى حيث مقام الموقع الكبير، فالشيخ أحمد الطيب، قبل المنصب ليس هو الشيخ الامام، شيخ الجامع الأزهر، إنه من الناس الذين يعرفون قيمة المنصب، وإذ كان توقعي بأن الشيخ طنطاوي سيكون استثناء لهذا القاعدة قد صدق، فلم يصدق التوقع فيما يختص بالشيخ الطيب، الذي مثل امتداداً للشيخ جاد الحق علي جاد الحق!
كان الشيخ جاد يُحسب على شيوخ السلطة، منذ كان مفتياً للديار، ووزيراً للأوقاف، وكان عضواً أصيلا في اللجنة التي صاغت قانون الأحوال الشخصية، الذي اشتهر بقانون جيهان السادات، وكان رابع أربعة أعدوا تقريرا في الرد على شهادة الشيخ صلاح أبو إسماعيل بناء على طلب مباحث أمن الدولة في قضية الجهاد الكبرى، لكنه عندما عُين شيخاً للأزهر استشعر حجم المسؤولية، وعظمة الموقع، فكان أداؤه مدهشاً، حتى بدا كما لو كان قد خلق مستقلا، ولم يداهن سلطة في حياته.
الشيخ من الثورة للانقلاب
ولم يظهر معدن الشيخ الطيب، إلا في السنوات الأخيرة، وإن بدت ارهاصاته مبكراً، لقد استعان بالسفير رفاعي الطهطاوي مستشاراً له، وإذ لم يكن طبيعيا أن ينحاز الرجل للثورة، بحكم انه ينتمي للفكر الديني المحافظ، وبحكم علاقته بالحكم ساعتها الذي عينه في هذا الموقع العظيم: "شيخ الجامع الأزهر"، فإنه رفض قبول استقالة مستشاره، عندما وجد ابنه وابنته وقد انضما للثورة، فذهب لميدان التحرير ولم يشأ ان يتحمل الشيخ الطيب نتيجة اختياره، لقد كان الرفض لأنه في قبوله للاستقالة، تأكيد على أنه ليس شهما مع أصدقائه، فيتخلى عنهم في وقت الأزمة، وألح السفير وقبل الشيخ على مضض!
وإذ أخذنا عليه أنه كان جزءا من الانقلاب العسكري، فينبغي أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، فالرجل بحكم النشأة والتكوين ليس ثائراً، وليس سياسياً، فهو صوفي تربى في عائلة صوفية، توارثت مشيخة الطريقة الخلوتية أباً عن جد، وهو سيد في قومه، ويتسم بما يتسم به المتصوفة من بعد عن السياسة، وما يُعرف عن وجهاء الصعيد على أنهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم جزء من مكونات السلطة وليسوا في عداء معها، وفهمت هذا ثورة يوليو فلم تعاديهم لانتماءات حزبية سابقة عليها، فمست الإقطاعيين منهم ولم تقترب من الذين من دونهم.
لقد شاهدنا الشيخ الطيب في مشهد الانقلاب، لكن في يوم الهول هذا لم نستمع إلى ما قال، فالحقيقة أنه بعد بيان عبد الفتاح السيسي أننا لم نستمع لأحد، والآن عندما نسمع لخطابه يدهشنا أننا لم نستمع له في حينه. إنه لم يؤيد الانقلاب باعتباره حقاً، ولكنه نظر إليه على أنه ضرر، وإن كان أخف الضررين!
ولم نسمع لبيانه عقب مذبحة الحرس الجمهوري، وإدانته لها، كما لم نسمع لبيان الإدانة الذي أصدره باسمه وبصفته وتلاه بصوته، في يوم مذبحة رابعة واعلانه براءة الأزهر منها، وكيف أن زوال الدنيا وما فيها خير عند الله من سفك دم عبد مؤمن!
وأنا أراجع المرحلة السابقة على هذه الأيام، ألاحظ أن الشيخ دعا الأطراف المتنازعة الى حوار يتبناه الأزهر مع الرئاسة، لكن بعد حضورهم خرجوا ينكرونه، ويعلنون أنهم مستمرون في اثارة الناس ضد الرئيس المدني المنتخب ومن محمد البرادعي إلى حمدين صباحي!
شعب الله المختار:
بيد أن المشكلة تكمن، أن من يدعون أنهم شعب الله المختار، لا يرضون بالشيخ الطيب إلا إذا شاهدوه يدعو للثورة ويخرج مناصراً للشرعية، ويتحول إلى ناشط سياسي وربما ينضم للمجلس الثوري، ليرضى عنه أهل الاستقامة الثورية!
وعقدة السيسي من الشيخ "الطيب"، إنه كان يريده خاتما في إصبعه، ليحول خزعبلاته عن الدين إلى دروس، ويتعامل مع رغباته على أنها أوامر، ويطوع الدين في خدمة هذه الهرطقات التي يتلوها غير مكتملة باعتباره من أهل الحقيقة، الذين يوحى إليهم.. ألم يقل من قبل "ففهمناها سليمان"، وهو يشير إلى ذاته؟!
ومشكلته معه أن منصب شيخ الأزهر محصن، وهو يريد أن يلغي هذا التحصين ليأتي بأسامة الأزهري، لكنه لم يجرؤ على هذا عندما تجرأ وعدل بعض مواد الدستور، لأنه ليس مطمئنا لرد فعل الجماهير، فقد تكون القشة التي تقصم الظهر!
إنه يحاول أن يطوع الشيخ، لكن لم يعرف المفاتيح التي يمكن أن يخترقه منها، وهذا رجل يبدو هينا لينا، لكنه لا يقبل أن يدوس كائنا من كان كرامته!
من يدعون أنهم شعب الله المختار، لا يرضون بالشيخ الطيب إلا إذا شاهدوه يدعو للثورة ويخرج مناصراً للشرعية، ويتحول إلى ناشط سياسي وربما ينضم للمجلس الثوري
إنه كما قلت سيد في قومه، والذين يقبلون يده بحكم المكانة الاجتماعية والدينية، وبدون مشيخة الأزهر هم بالملايين، ومن استقبلتهم مضيفة العائلة لكي يتناولوا الطعام فيها هم أيضاً بالملايين!
وقد اندفع السيسي متبنيا فكرة أعجبته لأنه رأى أصداءها في الصحافة الإسرائيلية، وهى تجديد الخطاب الديني، وبدا الشيخ عصيا على الانصياع، وبدا في تنظيمه لمؤتمر حول هذه الفكرة، وقد قرر أن يكون هو من يحدد اتجاهه، والناس تعلم هذا، ولهذا فعندما اندفع رئيس جامعة القاهرة، في وصلة هرطقة، تصدى له الشيخ، فأوب
الرأي العام معه، لأنه يدرك أنه يتصدى لمن يرقص على أنغام السيسي!
لقد ارتقى الشيخ الطيب، ليكون في مستوى شيوخ الأزهر الكبار، الذين خلدهم التاريخ، لا يضرهم من خذلهم أو شوههم واستحق ان يكون مولانا الذي نفخر به ليس مطلوبا أن نكون في توافق كامل معه، فهو كبير العائلة المصرية لا يغير الخلاف معه من هذه الصفة التي اكتسبها عن جدارة!
فتحية لمولانا الشيخ الطيب.