تنخرط
تركيا في العديد من الملفات الدولية الساخنة، وهو نمط تعاطي في
السياسة الخارجية اتبعته أنقرة في العقد الأخير، وفي ظل حكم الرئيس رجب
أردوغان وحزب التعدالة والتنمية. وقد وضعت هذه السياسة تركيا في مواجهة الكثير من اللاعبين الإقليمين والدوليين، انطلاقاً من تضارب مصالحهم مع التحركات التركية ضمن نطاقات ينشط فيها هؤلاء اللاعبون.
وخلال سنوات قليلة، وسّعت تركيا بيكار تحركها نحو العديد من الدوائر، وشمل نشاطها التدخلي منطقة واسعة تمتد من الشرق الأوسط وصولاً إلى آسيا الوسطى والقوقاز والقارة الأفريقية، وهي دوائر تمتلك تركيا خبرة قديمة فيها، منذ أيام الدولة العثمانية التي امتدت على مساحة قرون زمنية عديدة. من هنا يذهب الكثير من خبراء السياسة إلى وصف التحرك التركي الحالي بأنه محاولة إحياء وبعث للدولة العثمانية، في ظل صراع الهويات "الدينية والعرقية" الذي يشهده العالم اليوم.
وتكشف مسارات التحرك التركي على التركيز على أربع دوائر؛ هي من حيث الأهمية كالتالي:
- الدائرة الشرق أوسطية، حيث تسعى تركيا إلى بناء مناطق نفوذ في حديقتها الخلفية (سوريا والعراق)، وغالباً يأخذ التحرك ضمن هذه الدائرة طابعاً أمنياً، نظراً لوجود مخاطر أمنية تمس الأمن القومي التركي.
- الدائرة الأفريقية، وتشمل مناطق شمال أفريقيا وليبياو وغرب أفريقيا، بالإضافة إلى تواجد استراتيجي في شرق أفريقيا (القرن الأفريقي)، حيث توجد لتركيا قواعد عسكرية في الصومال وجيبوتي.
- دائرة آسيا الوسطى، وهي مجموعة الدول التي خرجت من الفلك السوفييتي، وترتبط مع تركيا بعلاقات عرقية (تركمانستان، طاجيكستان، أذربيجان، وقرغيزيستان، وأوزبكستان).
- دائرة القوقاز والبلقان، من الشيشان إلى ألبانيا.
يأتي تحرك تركيا ضمن هذه الدوائر، وفي ملفاتها الساخنة، في إطار رؤية تركيا لنفسها بأنها دولةٌ مركزيةٌ وفاعلٌ دوليٌّ ذو سياسة خارجية معقدة ومتشابكة الأبعاد، في إطار نظرية العمق الاستراتيجي (Strategic Depth) التي تعدّ المحرِّك الأبرز للسياسة التركية منذ العام 2002م، والتي ترتكز على أن تركيا دولة متعدّدة الأحواض القارية، الأمر الذي يمنحها عمقاً استراتيجياً في الدوائر المذكورة. ويلعب موقعها الاستراتيجي الحاكم بين قارتي آسيا وأوروبا، وإطلالتها على أفريقيا، دوراً مهما في هذه الرؤية.
وليس غريباً أن تلعب المؤثرات الجغرافية والتاريخية دوراً مميزاً في صياغة السياسات الخارجية للدول، بل إن الدولة التي لا تعي هذه الأبعاد في واقعها وتترجمها في سياساتها الخارجية، تفوّت على نفسها فرصة الاستفادة من الفرص التي يتيحها هذا الواقع، وخاصة إذا ما أضفنا لتلك المعطيات حقائق أخرى من نوع حجم السكان والثروات الاقتصادية والقدرات العسكرية، وهي جميعها معطيات متوفرة بدرجة جيدة بالنسبة لتركيا.
لكن الأمر المثير للتساؤل، هو قدرة تركيا على تحقيق المكاسب في ظل زخم سياساتها الخارجية المنفتحة على آفاق عديدة، والأهم، كيف يمكن لتركيا أن تضمن سلامة تحركاتها في ظل بيئة دولية صراعية إلى حد بعيد، وتنافس محموم من قبل فاعليها على الفرص. وهل تستطيع إدارة هذا الزخم بدون تكاليف عالية؟ أو لنقل، هل تملك الإمكانيات الكافية للتعامل مع جميع هذه الملفات في مواجهة خصوم أقوياء؟
تملك تركيا ثلاث عناصر قوّة تدعم تحركها ضمن الدوائر المشار إليها، وهي: عنصر القوّة
الدبلوماسية الناتجة عن خبرة عريقة لمؤسسة مستقرّة منذ أمد بعيد، وتجربة في إدارة العلاقات مع فاعلين مختلفين وفي ظروف مختلفة، والقوّة العسكرية، حيث يصنف الجيش التركي بتاسع أقوى جيوش العالم وثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الجيش الأمريكي، مع أصول عسكرية متطورة وصناعات واعدة في هذا المجال، والعنصر الثالث هو القوّة الاقتصادية، حيث تصنف تركيا من بين أقوى عشرين اقتصادا في العالم، بناتج محلي بلغ 850 مليار دولار، وتشهد تركيا نسب نمو مرتفعة، بالإضافة إلى تطور هياكل إنتاجها وتنوع قاعدة اقتصادها.
لكن لا بد من الاعتراف بحقيقة مهمة، وهي أن تركيا حقّقت هذه الإنجازات في ظل سياسة "صفر مشاكل" التي اتبعها "حزب العدالة والتنمية" في العقد الأول من القرن الحالي، حيث وفرت هذه السياسة انفتاحاً لتركيا على الصعيد العالمي، وحالة استقرار، حتى على مستوى صراعها مع حزب العمال الكردستاني. وانعكس ذلك على مستويات النمو والتطور بشكل واضح، واستطاعت تركيا الوصول إلى الأسواق العالمية ومصادر الثروة بشكل سلس دون أدنى عقبات، وبتسهيلات من الفاعلين الإقليميين والدوليين.
وليس خافياً أن للسياسات التدخلية، والانخراط في الأزمات الإقليمية والدولية تكاليف باهظة، لم تسلم منها أقوى القوى في عصرنا الحديث (الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية)، التي تكلفت أثمانا فاقت قدراتها، ونتج عن ذلك تفكك الاتحاد السوفييتي وتراجع التأثير الأمريكي. فإلى أي مدى تستطيع تركيا المواءمة بين توسع سياستها الخارجية واصطدامها مع لاعبين كثر، وبين الحفاظ على مصالحها وعناصر قوّتها؟ لا شك أن هذا الأمر سيكون الأثر الأكبر في اتجاهات السياسة التركية في المرحلة القادمة.