كتاب عربي 21

تنفسنا هواء نقيا.. لكن الكارثة لا تزال في الأفق

1300x600
قررت الأرض أن تطهر نفسها من بعض السموم التي ألقاها البشر في كل مكان جميل يحيط به، لهذا يشعر حماة البيئة بارتياح مؤقت، وهم يتابعون المشهد الراهن. لقد وجد الإنسان نفسه مضطرا بحكم وباء الكورونا أن يتوقف قليلا عن تخريب الطبيعة التي تحتضنه. حتى الثقب الذي وُصف بـ"التاريخي" وأحدثه التلوث وغازات الثورة الصناعية في طبقة الأوزون بنصف الكرة الشمالي؛ قد تراجع واستعاد وضعه السابق. قبل مئة عام.

هكذا في لحظة لم تكن متوقعة، عاد الدر إلى معدنه، لكن المخاطر ستبقى تهدد الأرض ما لم تراجع البشرية حساباتها، وتعيد التفكير في نمط الحياة والبحث عن حلول جديدة ومختلفة للمشكلات القائمة والمتعلقة بالاقتصاد واعتماد صناعات نظيفة. هذا يعني أن يوم القيامة أو نهاية العالم ما زال موعدهما بعيدا، ولا تزال الحياة منطلقة نحو الأمام. فالمشكلة تكمن في طريقة التفكير وأسلوب الحياة، أيضا في غياب الإرادة الجماعية لتأسيس حياة آمنة وسليمة.

كان الإنسان ولا يزال يعيش في علاقة صراع مع الطبيعة. كان يخاف منها بحكم جهله بأسرارها. استمرت تلك العلاقة آلاف السنين إلى أن بدأ يكتشف القوانين التي تحكمها، وهو ما سمح له بأن يخضعها تدريجيا لإرادته ورغباته ومصالحه وشهواته. وبدل أن تكون هذه السيطرة على الطبيعة والعنف المسلط عليها ذلك في صالح الإنسان، انقلب عليه الأمر في نهاية المطاف، ليكتشف أن وجوده أصبح مهددا، إذ كلما زادت مؤشرات "الانتصار التاريخي" على قوى الطبيعة، واتسعت دائرة الدمار الشامل، ازداد استخفاف الإنسان بالمخاطر المحدقة به، مما جعله يحاول أن يتدارك الأمر فيخفف من حجم الأضرار، وأن يؤجل نهاية المقابلة، وقام بمعالجة هذا الخطر أو ذاك بشكل جزئي ومؤقت.

تكفي الإشارة إلى أن مصادر الأسماك في منطقة آسيا والمحيط الهادي مهددة بالاستنفاد خلال الثلاثين سنة القادمة، وأن تسعين في المئة من شعابها المرجانية مهددة بالانقراض بسبب التلوث، وذلك قبل حلول سنة 2050. الأرض، هذه الجنة التي منحها الله لنا، أصبحت اليوم عرضة لتخريب واسع النطاق بسبب عدم احترام القوانين المنظمة لها. تقول الآية الكريمة: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها". والفساد هنا ليس بالمعنى المتعارف عليه من خمر وزنا، إنه أعمق من ذلك وأشمل، لأنه يرمز إلى البعد الأيكولوجي الذي يقتضي احترام قوانين الطبيعة التي بموجبها يسير الكون ويجدد نفسه، وتتكامل عناصره، ويخلق التوزن المطلوب؛ إذ في غياب ذلك التوازن، يختل كل شيء في الحياة فتموت ويندثر كل ما حولها.

يعدّ إيف لاكوست من الشخصيات العظيمة التي عاشت طيلة القرن العشرين في علاقة مباشرة بدقائق الكرة الأرضية وأسرارها. هذا العسكري الفرنسي الذي مرت اليوم 110 سنوات على ميلاده، تحول إلى أكبر مدافع عن البحار في وجه همجية الإنسان. قال في أحد تأملاته: "خلال القسط الأكبر من التاريخ كان الإنسان يقاوم الطبيعة من أجل البقاء، في هذا القرن بدأ يفهم أنه لكي يبقى ويستمر، عليه أن يحميها". صحيح أنه تأخر كثيرا ليدرك هذه الحقيقة، لكن لا تزال الفرصة سانحة لاستعادة الوعي، وإنقاذ الأرض من الفناء.

بدأت الشعوب تتهيأ لكي تستعيد نسقها العادي رغم عدم التوصل إلى الدواء الكفيل بالقضاء على الوباء. مع هذه العودة الاضطرارية التي أملاها الخوف من الوقوع في المجاعة بعد أن توقفت عجلة الاقتصاد أو تكاد، تعود أيضا المخاطر الكبرى التي تهدد الأرض وكائناتها.

هل اتعظ الإنسان من هذه الفرصة التي توفرت له لكي يراجع حساباته، ويغير نمط حياته اليومية؟ لا شيء يضمن ذلك؛ إذ تكفي متابعة بعض قادة هذا العالم، كيف يفكرون وبماذا يحلمون، وما هي أهدافهم التي يصرون على تحقيقها، حتى نتيقن بأن حالة التوحش مستمرة وقد تزداد، رغم أن في البشرية قَوْما صالحين، سيضاعفون من جهودهم حتى يحاصروا الشر والأشرار.

الرئيس دونالد ترامب غير عابئ بحراس الطبيعة من علماء ونشطاء؛ يعدّهم مجانين ويتهمهم بعدم إدراك أن المقياس الوحيد أو الأساسي لاكتساب القوة والثروة هو المال، والمال يكتسب بكل الطرق بما فيها الهيمنة على الشعوب، وإرهابها، واستنزاف ثرواتها، وإذا لزم الأمر الدفع بها نحو الإفلاس والجوع والاندثار. كما يعتقد بأن الطبيعة في خدمة أمريكا التي يجب أن تبقى الأقوى والأفضل والماسكة بقيادة العالم. أليس هو القائل: "لن أخاطر بالثروة الأمريكية مقابل أحلام". قال ذلك في قمة تغير المناخ، واعتبر أمام الجميع أن مسألة ارتفاع درجة حرارة الأرض مجرد "خدعة"، وهو رافض للخوض في أي جدل يراه "عقيما" حول مستقبل الحياة فوق الكرة الأرضية. وهو حريص اليوم على العودة من جديد إلى إدارة الصراع مع الصين، ومحاولة التحكم في أسواق النفط وغيرها من المصادر التي تدر على نخبة صغيرة في أمريكا والعالم ثروات طائلة.

صحيح الرئيس ترامب ومن يشاطره أفكاره بشر، ونحن أيضا بشر، لكن لكل منا طريقه ومنهاجه.. المصيبة أننا وإياه نعيش على المركب نفسه، والأخطر من ذلك أن موازين القوى في العالم جعلت منه ربان السفينة.