الكتاب: "نقاش السلاح.. قراءة في إشكاليات التجربة العسكرية الفلسطينية 2020"
الكاتب: ماجد كيالي
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، ومكتبة كل شيء في حيفا (268 صفحة من القطع المتوسط).
بعد انطلاقة غالبية حركات المقاومة الفلسطينية في النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن الماضي، كانت العمليات الفدائية ضد المحتل الإسرائيلي حتى صيف عام 1982 السمة الأبرز للكفاح الفلسطيني برمته رغم الحديث عن القبول بدولة فلسطينية بعد عام 1974. وكان اللافت هو التسابق في العمليات الفدائية في نهاية الستينيات وعقد السبعينيات، حتى وصل عدد العمليات ضد المحتل الإسرائيلي خلال يوم واحد إلى أكثر من خمسين عملية فدائية.
ثمة تحولات شهدتها التجربة العسكرية الفلسطينية برمتها، فمن مرحلة التجييش التي عاشتها حركات المقاومة الفلسطينية مع تضخم أجهزتها العسكرية واتساع مدى انتشار قواتها من جبهة أغوار الأردن وصولاً الى جنوب لبنان، حتى الخروج الفلسطيني المسلح من بيروت في صيف عام 1982، وصولاً لاتفاقات "أوسلو" وانتقال الثقل الفلسطيني إلى الداخل الفلسطيني، ونشأة أجنحة عسكرية للفصائل. فمن داخل حركة فتح نشأت قوات الفهود السود، وصقور فتح، وكتائب العودة، فضلاً عن كتائب شهداء الأقصى، في حين تشكلت بعد انطلاقة انتفاضة الأقصى في عام 2000 كتائب المقاومة الوطنية كجناح عسكري للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكذلك كتائب الشهيد أبو علي مصطفى كجناح عسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في حين تمّ الإعلان عن "كتائب الشهيد عز الدين القسام" في منتصف عام 1991م، كجناح عسكرية لحركة "حماس"، وتشكلت سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في النصف الثاني من عقد الثمانينات .
مراجعة التجربة العسكرية
في مؤلفه الجديد، يتقدم الكاتب السياسي ماجد كيّالي خطوة هامة أخرى على صعيد مشروعه الهادف إلى نقد التجربة الوطنية الفلسطينية الذي بدأه في كتابه "الثورة المجهضة.. قراءة نقدية في التجربة الوطنية الفلسطينية"، ثم كتاب "فتح 50 عاما، قراءة في مآلات حركة وطنية"، ليبقى في صلب مشروعه النقدي الذي لم ينقطع خلال عشرات المقالات والدراسات والتحليلات التي نشرها لسنوات، مستفيدا من خبرته السياسية المباشرة، وانخراطه بشكل مباشر كمناضل في صفوف الثورة الفلسطينية منذ بداياتها، مواكباً مساراتها المختلفة .
يحاول الكاتب ماجد كيالي في كتابه الجديد الذي نعرض له مراجعة التجربة العسكرية الفلسطينية بمختلف جوانبها منبها في نفس الوقت، أن كتابه ليس بحثا تاريخيا استقصائيا ولا تقريرا إحصائيا أو إخباريا، بل هو محاولة ضرورية للتفكير والتبصّر، مهما كانت متأخرة، في تلك التجربة، بعيدا عن الأهواء والرغبات والشعارات والنظريات اليقينية التي درجت على احتضانها الخطابات الفصائلية، ودعوة للتفكير بأشكال النضال الممكنة بحثا عن أكثرها ديمومة وجدوى لمصارعة إسرائيل، والتأثير عليها كتجمع استيطاني ودولة ابارتهايد أنشئت على حساب الشعب الفلسطيني ووطنه الوحيد فلسطين .
شرارة الكفاح المسلح الفلسطيني لم تنطلق من الداخل الفلسطيني سواء من المناطق المحتلة عام 1948 أو تلك المحتلة عام 1967، أي من الضفة الغربية وقطاع غزة، بل انطلقت من الدول العربية التي دأبت على مصادرة توجهات الفصائل السياسية بالقوة الناعمة والخشنة، بغرض توظيفها لأهداف النظم العربية.
ويؤكد كيالي بأن التجربة الفلسطينية ومن ضمنها الكفاح المسلح افتقدت لأي بعد تأسيسي أو تنظيري، حيث اعتبرت الفصائل المعنية المقاومة المسلحة أيقونة مقدسة بغض النظر عن التكلفة التي دفعت بغية ذلك، في وقت باتت فيه الفصائل تعمل كل شيء عدا الكفاح المسلح الذي تضمنته أدبياتها المختلفة.
وتبعاً لذلك يدعو الكاتب إلى استنباط أشكال كفاحية تكون أكثر جدوى واستمرارية للصراع مع دولة الاحتلال الاسرائيلي والانتصار عليها في نهاية المطاف.
وبعد تطرقه إلى التنظيرات حول التجربة العسكرية الفلسطينية والفرق بين مصلحاتها ومفاهيمها المختلفة، إلا أنه أكد بأن منظري الكفاح المسلح منذ انطلاقة العمل الفدائي الفلسطيني لم يحددوا مفهومهم بشكل دقيق ومدروس، بل انشغلوا به بشكل عفوي دون تحديده، وبعيدا عن أي استراتيجية لتحقيق أهداف وطنية محددة مقابل البطولات والتضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني التواق لتحرير أرضه من المحتل الإسرائيلي .
ويعتبر الكتاب الذي نعرض له إضافة إلى مشروع نقد التجربة الوطنية الفلسطينية برمتها الذي كان الكاتب كيالي قد اشتغل عليه في كتابيه: "الثورة المجهضة…قراءة نقدية في إشكاليات التجربة الوطنية الفلسطينية" (صدر في عام 2013 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، و "فتح 50 عاما، قراءة في مآلات حركة وطنية"، وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ومركز "مسارات".
التحول في التجربة العسكرية
أشار الكاتب ماجد كيالي إلى أن تجربة الكفاح المسلح قد مرت بعدة مراحل يدأ وكأنها عمل مقدس حتى لخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان في صيف عام 1982، مالبث أن عاد في الثمانينيات من القرن المنصرم، بدفع الخروج المسلح من الساحة اللبنانية وتأثير الانتفاضة الأولى (1987- 1993) من الكفاح المسلح إلى نمط جديد تمثل بالمقاومة الشعبية، خاصة بعد اتفاقات أوسلوا بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، لكن نموذج الكفاح المسلح انطلق من جديد بعد انطلاقة انتفاضة الأقصى في أيلول/ سبتمبر من العام 2000، وتسابقت كل من حركتي "فتح" و"حماس" بالعمليات الاستشهادية. ويرى الكاتب بان فكرة العمليات الاستشهادية قد انكفأت بعد رحيل الرمز الفلسطيني ياسر عرفات (أبو عمار) في عام 2004، باستثناء القصف الصاروخي من قطاع غزة على التجمعات الإسرائيلية إثر كل اعتداء إسرائيلي. ويصل الكاتب الى استخلاص أساسي، هو أن حركة "فتح" قد أسست للكفاح المسلح بشكل عاطفي ومتسرع، وعممته للفصائل الفلسطينية الأخرى فيما بعد .
دحض الكاتب كيالي بشكل واضح وجلي مراهنة حركة "فتح" عند تبنيها الكفاح المسلح لجهة التوريط الواعي للنظم السياسية العربية حتى تكون سنداً للكفاح الفلسطيني، في حين أنه لا يمكن الاعتماد على النظم العربية وجيوشها عند دراسة واقعها بشكل دقيق. بعد ذلك انتقل الكاتب كيالي ليؤكد بأن خطابات جديدة تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية الثمانينيات لجهة القبول بمؤتمر دولي للسلام، وصولا إلى انعقاد مؤتمر مدريد للتسوية في نهاية 1991 وعقد اتفاقيات إعلان المبادئ (أوسلو) في أيلول/ سبتمبر 1993، لتبدأ مرحلة جديدة من تجربة الكفاح الفلسطيني.
واللافت أن كيالي جزم إلى كبير بأن التنظيرات حول تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني لم تواجه نقداً حقيقياً من قبل المثقفين والباحثين السياسيين الفلسطينيين، فعدد كبير منهم أدار ظهره لتلك التجربة، خاصة وأن حركة "فتح" استحوذت على الفضاء العام وتحكمت بالمزاج العام للشعب الفلسطيني، لكن ذلك لم يمنع من ثمة نقد للتجربة الفلسطينية، طال أشخاص وفصائل أو سياسة محددة، بيد أنه لم يكن نقداً شاملاً للتجربة الفلسطينية.
لقد تطرق الكتاب أيضاً الى أشكال الكفاح التي مرّ بها الشعب الفلسطيني، مثل ثورة العام 36، والانتفاضتين الأولى والثاني خلال عامي 1987 و2000، ورصد بالإحصائيات خسائر إسرائيل البشرية التي تجاوزت بالارقام ما خسرته اسرائيل خلال حروبها مع الدول العربية.
وخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها بأن شرارة الكفاح المسلح الفلسطيني لم تنطلق من الداخل الفلسطيني سواء من المناطق المحتلة عام 1948 أو تلك المحتلة عام 1967، أي من الضفة الغربية وقطاع غزة، بل انطلقت من الدول العربية التي دأبت على مصادرة توجهات الفصائل السياسية بالقوة الناعمة والخشنة، بغرض توظيفها لأهداف النظم العربية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن علاقات الفصائل مع الدول العربية المتواجدة فيها كانت بغالبيتها أمنية وليست سياسية، أي أن مكتب أو فرع مخابرات هو الذي ينظم العلاقات مع الفصائل الفلسطينية، ولكل فصيل ضابط اتصال محدد.
ومن أهم الاستنتاجات التي توصل إليها الكاتب، إنه لا يمكن تثمير كفاح الفلسطينيين، مهما كان شكله أو نوعه أو مستواه، في بناء المجتمع الفلسطيني، أو في إثارة التناقضات في إسرائيل، أو رفع ثمن الاحتلال، أو في جلب التعاطف الدولي، من دون تغيّرات مواتية، في المعادلات الدولية، والبيئة العربية المحيطة، ومن دون تغيّرات ثقافيّة واجتماعية وسياسيّة في إسرائيل ذاتها. كما أكد على ضرورة إدراك الفلسطينيين أهمية ترشيد أشكال كفاحهم، وضمنه الاقتصاد في تصريف طاقتهم، والموازنة في نشاطاتهم، بين حاجتهم لبناء كياناتهم ومؤسساتهم السياسية والمجتمعية، وبين كفاحهم ضد عدوهم، وأيضاً بين أشكال كفاحهم، ومستوياتها وبين الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، حتى لا تتبدّد تضحياتهم، وكي يستطيعوا المراكمة على منجزاتهم.
خاتمة
تكمن أهمية الكتاب الذي عرضنا له، بكون المؤلف ماجد كيالي خاض التجربة الكفاحية بكافة تشعباتها ومنعطفاتها منذ البداية، ناهيك عن الطرح المباشر والواضح بالتمحيص والتدقيق لتجربة الكفاح المسلح الفلسطيني ونقدها، وهذا بحد ذاته يعتبر نقد شخصي لكن يمكن الاستفادة منه حتى تكون الصورة أوضح وأكبر، من خلال سعي كافة الفصائل الفلسطينية بكافة نعوتها لمراجعات نقدية حقيقية، حتى تكون ملك الشعب الفلسطيني الذي قدم ألاف التضحيات في طريق تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية. وبدون تلك المراجعات لا يمكن الحديث عن إستراتيجية كفاحية وطنية للشعب الفلسطينية والأجيال القادمة التي ستبتكر بكل تأكيد سبل وطرائق أكثر نجاعة من الكفاح ضد إسرائيل والانتصار عليها لتحقيق كافة الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني .
*كاتب فلسطيني مقيم بهولندا
النظم التربوية في البلدان المغاربية.. الواقع والآفاق (2من2)
النظم التربوية في البلدان المغاربية.. الواقع والآفاق (1من2)
انطفاء مصابيح الحضارات ودخولها في عصر الظلمات (3من3)