المتابع للانتهاكات التي تتم في
مصر منذ 3 تموز/ يوليو 2013 حتى وقتنا هذا -وبشيءٍ من الإنصاف - يتبين له أنها جرائم ضد الإنسانية، مثل "القتل الممنهج، والاختفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والتعذيب الممنهج والمستمر"، فضلا عن
الانتهاكات الأخرى في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولكن المأساة الحقيقية التي تعيشها بشكلٍ يومي عائلات وأسر؛ هي مأساة أوضاع السجناء في مصر الذين يدفنون أحياء داخل
السجون المصرية.
السجناء في مصر، يتعرضون لجرائم وانتهاكات متعددة أشدها التعذيب والإهمال طبي، فضلا عن باقي الانتهاكات التي يتعرضون لها داخل محبسهم؛ من منع لدخول الأدوية اللازمة والغذاء والماء الصحيين، والتعنت في المنع من الزيارة، والتأديب والحبس الاحتياطي، والمُعاملة اللاإنسانية.
السجون المصرية بشكلٍ خاص، وكما هو معروف لجميع المُتابعين من
منظمات المجتمع المدني، تعيش وضعا مُزريا، بالمخالفة للنصوص القانونية "المحلية والدولية" المنظمة لإدارة شؤون السجون والسجناء.
والسجون المصرية باتت بيئة خصبة تنتشر فيها أمراض عديدة منها: الدرن، والسكر، والقلب، وحساسية الصدر، والحمّى، والروماتيزم، والأمراض الجلدية، والسرطان. فالحكومة المصرية تمتلك 68 سجنا، بالإضافة إلى 382 مقر احتجاز داخل أقسام الشرطة، وبات غير خافٍ على أحد سوء الأوضاع داخلها، وفقا للكم الهائل من الشكاوى التي تتحدث عن ضعف خدمات الرعاية الطبية والمناخ الصحي داخلها.
ولعل زيادة الوفيات داخل السجون خلال الأيام الماضية هي خير دليل على ما ذكرناه سابقا، ففي الفترة من كانون الثاني/ يناير 2020 – أيلول/ سبتمبر 2020 بلغت 64 حالة وفاة، منها 41 حالة وفاة في 16 سجنا، و23 حالة وفاة (منها خمس حالات وفاة نتيجة التعذيب)، في مقرات احتجاز مختلفة (أقسام شرطة– قوات أمن – مقر أمن دولة).
وجاء سجن العقرب متفردا بتسجيل أربع حالات وفاة، في ذات الوقت سجلت منطقة سجون طرة (الاستقبال- وطرة تحقيق- ليمان) عددا إجماليا بلغ 10 حالات وفاة.
وسجن برج العرب سجل ثلاث حالات، وسجن الزقازيق العمومي ثلاث حالات، وسجن أسيوط والمنيا حالتين لكل منهما، وباقي السجون سجلت حالة واحدة لكل منها.
وفي أقسام الشرطة، وفيما يخص الإهمال الطبي، سجل قسم شرطة المحلة أول ثلاث حالات، والزقازيق ثلاث حالات، وباقي المقرات حالة لكل منها.
ولعل أبرز المشكلات داخل السجون التي تؤدي إلى سوء الأوضاع هي:
التكدس والتزاحم
فيظل التكدس الذي يفوق الطاقة الاستيعابية للسجون ومقار الاحتجاز، هو الأمر الأكثر إزعاجا في مصر. فوفقا لتقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي نُشر في 2016، فإن نسبة التكدس بالسجون المصرية فقط (دون غيرها من أماكن الاحتجاز مثل أقسام الشرطة والمناطق العسكرية) تخطت 150 في المئة، بل وصلت (حسب التقرير) إلى 300 في المئة في أقسام الشرطة.
وذكر المجلس في تقريره السنوي لسنة 2015/ 2016، أن تقارير وفود المجلس التي زارت السجون أجمعت على ضعف الخدمات المتاحة في السجون، نظرا لحالة التكدس وضغطها الشديد على الخدمات.
ضعف الخدمات الطبية والمناخ الصحي
يُضاف إلى عامل التكدس - السابق ذكره - عامل ضعف الخدمات الطبية، وقد جاء ذلك في بحثٍ ميداني عن الصحة في سجون مصر، تناول محددات الصحة داخل عالم السجون المغلق، وهو صادر عن "المُبادرة المصرية للحقوق الشخصية". وذكر أن الواقع في مُمارسة الحق في الصحة داخل السجون المصرية عند التطبيق، يمرُّ بعدة محطات، وفي كل محطة منها توجد من العقبات ما تحول دون الانتقال إلى المحطة التالية، بما يحمله ذلك من تأخر الرعاية الصحية، الأمر الذي يؤدي في عدد غير قليل من الأحوال إلى الوفاة.
وخَلُصَ البحث إلى أن الأوضاع المعيشية والصحية داخل السجون (من واقع شهادات السجناء السابقين) لا تتماشى مع الحد الأدنى من مكونات الحق في الصحة، وذلك على مستوى إتاحة الخدمات الصحية وجودتها وكفاءة القائمين على تقديمها. وتفاوتت جودة الخدمة الصحية بين السجون في مصر على مستوى البنية الأساسية والتجهيزات، كما تفاوت مستوى الأطباء المنوط بهم عياداتها.
وكان هناك قصور في توفير الخدمات العاجلة في الحالات الصحية الطارئة غالبا، بسبب بطء الإجراءات الخاصة بذلك، أو بسبب كون القرار النهائي يقع في يد إدارة السجن.
وبالنسبة للنساء والأطفال فتفاوتت مستويات وأشكال الرعاية التي تقدم إليهم، إلا أنها تشاركت في كونها غير كافية وأحيانا غير مناسبة، بالنسبة إلى مقومات الصحة (وهي أيضا التدابير الصحية الوقائية) والتي تشمل الغذاء والمرافق الصحية (دورات المياه)، والنظافة والإضاءة والتهوية والتريّض. فقد افتقرت إلى الاهتمام اللازم من إدارة السجون، فغياب النظافة والصيانة للعنابر والزنازين ودورات المياه، والتكدس الشديد للسجناء كان لها دور سلبي في التأثير على صحة السجناء.
سوء التغذية وإهمال النظام الغذائي الصحي للمسجونين
يؤدي الإهمال في النظام الغذائي دائما الانتشار الأمراض، فإذا لاحظنا النظام الغذائي داخل السجون المصرية سوف نجده من أسوأ الأنظمة الغذائية، حيث يتم الاعتماد على الفول والعدس والجبن والحلاوة والخضار والأرز، كما يقدم لهم في بعض الأحيان بعض اللحوم أو البيض مرة في الأسبوع، ويتم إعداد الطعام بسلقه في المياه بدون أي زيوت أو ملح ويكون الإعداد في غاية السوء. كما أن اللحوم تكون ذات لون داكن وصلبة مما يصعب مضغها. كما أن الفول يكون مليئا بالحصى، حيث يقوم النزلاء بتنقيته لاستخراج الحصوات منه. فالطعام بصفة عامة غير نظيف وغير كاف، مما يؤدي إلى انتشار العديد من حالات سوء التغذية والتسمم الغذائي والضعف العام.
من الواضح أن الحكومة المصرية سُدت في وجهها السبل لقمع المعارضة، فلم تجد بديلا غير القتل، فاتخذت السجون مقابر لدفنهم أحياءً، يُقتلون قتلا بطيئا واحدا تلو الآخر، غير عابئة بالانتقادات الحقوقية الدولية، ولا تهتم بما ترصده المنظمات غير الحكومية المعنية بالدفاع عن
حقوق الإنسان.
ولعل ذلك يجرنا للإشارة إلى العمل الحقوقي الذي يُعلق عليه كثير من الضحايا وذويهم آمالا مفتوحة بلا سقف، ولِمَ لا وهو من المفترض أن يكون واقعا؟ فالحقوقيون والمنظمات الحقوقية هم دائما صوت كل مظلوم، لكن العمل الحقوقي هو عمل رقابي وراصد ومُوثق للانتهاكات والجرائم، وبمثابة جهاز الإنذار والتحذير والاستعداد؛ وفي ذات التوقيت (وعلى المستوى المباشر) لا تمتلك المؤسسات الحقوقية سلطة، ولا تمتلك أيضا الهيئات الدولية ذات السلطة التي تمكنها من تنفيذ أيّا من قرارتها وتوصياتها ضد الأنظمة القمعية، بل ولا تتمتع توصياتها بالصفة الإلزامية للدول.
القضية المصرية عقب تموز/ يوليو 2013 باتت محل اهتمام عديد من المنظمات الحقوقية خارج مصر، واستطاعت رغم التحديات، والعقبات التي واجهتها وتواجهها (أبرزها المصالح الاقتصادية والسياسية الدولية)، كشف الجرائم التي ارتكبتها الحكومة المصرية وفضح ممارساتها خارجيا، وساهمت في بقاء القضية المصرية حيّة خارجيا كي لا تتوه وسط تعدد القضايا المختلفة الأكثر جسامة في الشرق الأوسط، وذلك بفضل جهود حقوقية بُذلت من المنظمات غير الحكومية.
فعملت المنظمات المختلفة على إصدار التقارير دورية/ غير دورية، ترصد وتوثق الانتهاكات، وإرسالها للجهات الدولية والبعثات، والبيانات الرسمية بعدة لغات، ومخاطبة كافة الجهات بها في ما يخص الانتهاكات بحق السجناء، كما قامت بتدشين حملات الحشد والمناصرة، ومستمرة على شكل محطات وفق المناسبات الدولية العالمية بالتعاون مع منظمات متعددة (مثل حملة وقف تنفيذ أحكام الإعدام، والاختفاء القسري، والتعذيب والإهمال الطبي، والدعوة لإنقاذ السجناء من وباء كورونا، وغيرها). كما قدمت المنظمات الشكاوى الدولية للآليات التابعة لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، واللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، بالإضافة لعقد الندوات والمؤتمرات، ولقاء المنظمات الحقوقية المختلفة، والمؤتمرات والندوات الحقوقية داخل مجلس حقوق الإنسان، وغيره في دول أوروبية.
ولا ننسى أن نشيد بجهود المنظمات التي ساهمت في صدور إدانة دولية ضد التعذيب في مصر. ففي التاسع من شهر أيلول/ سبتمبر 2017 تم الإعلان عن تقرير لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، والذي وصف التعذيب في مصر بالممنهج والمتعمد من قبل قوات أمنية تابعة للجيش والشرطة، بل وأدان التقرير جزءا من النيابة العامة، واعتبر أن بعض أفرادها مارسوا التعذيب بشكلٍ مباشر.
منذ تموز/ يوليو 2013 لم تتوقف الإدانات للحكومة المصرية على كافة الجرائم والانتهاكات التي تقوم بها، حتى من تلك الأنظمة التي تَدعمها وتتعاون سياسيا واقتصاديا، بل وعسكريا، فجميعها أدانت النظام المصري وأجهزته الأمنية، واتهمته بارتكاب جرائم مُمنهجة ومُتعمَّدة.
ولعل ما صدر مؤخرا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 أثناء استعراض ملف حقوق الإنسان المصري، وأسفر عن 372 توصية تدين انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، يشير بوضوح إلى الجهد الحقوقي المبذول لصالح القضية المصرية، وضحايا حقوق الإنسان في مصر.
فقد حقق نشطاء حقوق الإنسان نجاحا في كشف كثير من الانتهاكات وفضحها وتوثيقها، وأيضا حدث تواصل مع آليات مجلس حقوق الإنسان، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، من خلال إرسال الشكاوى والتقارير التي ترصد الانتهاكات الحقوقية والقانونية.
وقد أزعج ذلك النشاط الحقوقي الحكومة المصرية، وبدلا من الاستجابة لصوت المدافعين عن حقوق الإنسان والتعاون معهم، لجأت السلطات المصرية إلى إسكات صوتهم، والتضييق عليهم، إما بالاعتقال التعسفي للمدافعين عن حقوق الإنسان، أو بمنع بعضٍ منهم من السفر خارج البلاد، أو بالتحفظ على الأموال، أو بإصدار قرار إداري بإغلاق مقرات بعض الجمعيات الحقوقية. وزادت هجمة الشرطة على المدافعين عن حقوق الإنسان في مصر كلها، وتم استهداف المنظمات الحقوقية.
ولكن ضحايا تلك الانتهاكات يستحقون المزيد، ومرتكبي الجرائم ينبغي لهم ألّا يفلتوا من العقاب، لذا فالنضال الحقوقي يجب أن يستمر لتحقيق أهدافه، رغم التحديات والمعوقات، والعمل الحقوقي يستحق دعم منظماته معنويا وماديا لكي يحقق النجاح المنشود.
مصر تستحق أن تكون دولة رائدة في الحقوق والحريات، دولة قانون، دولة عدالة يكون القضاء المستقل هو عنوانها، قضاة مستقلين عن السلطة التنفيذية يكونون ملاذا للضعفاء والمقهورين من سلطات الدولة، دولة تقدر وتحترم دور مؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق الإنسان، والمدافعين عن حقوق الإنسان.