تتوالى أطروحات الباحثين المختصين في علم العقائد والفلسفة الإسلامية الداعية إلى تجديد علم الكلام، وبعضها إلى علم كلام جديد بما يواكب قضايا الفكر الراهنة، ويجيب عن تساؤلات وجودية كبرى بمضامين وأدوات مستمدة من حقول معرفية وإنسانية حديثة، ويدافع عن الدين وعقائده وتشريعاته بحجج وبراهين عقلية وعلمية تظهر تهافت الشبهات المثارة ضد الدين الإسلامي من مختلف خصومه وأعدائه.
تتبع الباحث المصري المتخصص في الفكر الإسلامي، الدكتور هاني نسيرة في بحثه المعنون بـ"علم كلام جديد أم تجديد لعلم الكلام.. إشكالات وقضايا" نشأة الدعوة إلى علم كلام جديد، فذكر أن "الظهور الأول لتعبير الكلام الجديد يعود للعقد الأول من القرن المنصرم، حين طرحه العالم الهندي شبلي النعماني المتوفى سنة 1914، في كتابه "علم كلام جديد".
ووفقا لنسيرة "فقد تناول النعماني ـ سيرا على خطى أستاذه السيد أحمد خان ـ مسائل تتعلق بحقوق الإنسان وحقوق المرأة، والإرث والحقوق العامة للشعب، بجوار مباحث الكلام التقليدية كوجود الباري والنبوة والمعاد والتأويل وغيرها.. وبعد صدور هذا الكتاب صدر في طهران عدد من الكتب والدراسات التي تركز على مسألة علم الكلام الجديد".
ونقل عن الباحث العراقي المتخصص في الفلسفة الإسلامية، الدكتور عبد الجبار الرفاعي أسماء بعض تلك الكتب والجهود البحثية في هذا المجال، منها: كتاب "أربع مقالات في الفلسفة والكلام الجديد" لجواد تارا، ثم توالت جهود كل من العلامة محمد حسين الطباطبائي وتلميذه الشيخ مرتضى المطهري، الذي كان أحد أقرب المقربين للخميني بعد الثورة حتى اغتياله سنة 1980، ورغم حرصه على طقوسيات التدين التقليدي، إلا أن معرفته الفلسفية والعقلية أتاحت له أن يسعى لتأسيس منهجية جديدة لعلم الكلام".
ومما ذكره المطهري "أنه إذا كانت وظائف علم الكلام القديم تتمثل في وظيفتين هما: دحض الشبهات الواردة على الدين وفروعه، وبيان الأدلة على الأصول، فهذا يعني غيابه عن الشبهات المستجدة في عصرنا، فضلا عن أن الشبهات الماضية أمست بلا موضوع في هذا العصر، كما وفر التقدم العلمي الكثير من الأدلة والبراهين الجديدة التي لم يعهدها العقل سابقا، مما يوجب ضرورة إيجاد أسس منهجية نحو علم كلام جديد".
من آخر تلك الأطروحات الداعية إلى تأسيس علم كلام جديد، كتاب "مقدمة بعلم الكلام الجديد" لمؤلفه الدكتور عبد الجبار الرفاعي، والصادر حديثا عن دار التنوير في بيروت، الذي يؤكد في دعوته تلك أن "الانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد يتطلب دراسة علمية للتراث الكلامي، وذلك يعني التوفر على خبرة ودراسة في التعاطي معه، واستلهام روحه الحية، والقدرة على توظيفها في منظومة الأفكار الكلامية الراهنة".
ويتابع: "وكما هو معروف بين أهل العلم أن الاجتهاد في أي حقل من حقول المعارف الإسلامية مما لا يدركه كل أحد، وذلك لأنه يتوقف على دراسة جادة ومعمّقة للتراث، ووعي دروبه ومسالكه المختلفة، مضافا إلى الإلمام بالقواعد والأدوات الخاصة للاجتهاد في ذلك الحقل، فلا يمكن تجديد علم الكلام من دون دراسة وبحث يستكشف مسالك التراث الكلامي المتنوعة، واستيعاب مقولات وآراء المتكلّمين المختلفة".
عبد الجبار الرفاعي.. أكاديمي وباحث عراقي
ويلفت إلى أنه وبموازاة ذلك فإن "تجديد علم الكلام يتوقف على تمثّل روح العصر، والانفتاح على المكاسب الهائلة للعلوم الراهنة، خاصّة العلوم الإنسانية، والتخلّص من الحساسية والوجل أو العقدة في التعامل مع معطيات العلم الحديث، فإن بعض العلوم الإنسانية تطوّرت بدرجة توازي تطوّر العلوم الطبيعية والعلوم البحتة في الغرب، وهي ذات وشيجة عضوية بمناهج علم الكلام ومسائله ولغته ومنظومته المعرفية بأسرها".
وفي هذا الإطار أوضح الأكاديمي المغربي، المتخصص في العقائد والأديان، الدكتور حمزة النهيري أن "هذا العلم لم يزل في طور البناء، لذا فقد تنوعت الاجتهادات في بيان هويته، والكشف عن أسسه ومرتكزاته" مشيرا إلى أن التجديد في لغة ذلك العلم يتحقق بالانتقال من لغة المتكلمين القديمة، ومعمياتها وألغازها، إلى لغة حديثة تعبر بيسر وسهولة عن المداليل، ويفهمها المخاطب من دون عناء، لأنها لغة معاملاته وحياته اليومية".
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "أما ما يتعلق بالتجديد في المباني، فإن المتكلم القديم اهتم سابقا بترسيم مبانٍ خاصة في المعرفة، تستند إلى المنطق الأرسطي، وشيء من ميراث بعض تلك المباني حين افتتحت الفلسفة الأوروبية الحديثة ثغرات اخترقت جدار الواقعية الأرسطية، وتزايد الحديث عن واقعيات معقدة، كالواقعية التخمينية، وتعرض المفهوم التقليدي للعقل إلى عاصفة نقدية، استهلها الفيلسوف الألماني، عمانوئيل كانط، واكتسبت من بعده صياغات متنوعة، بالاستناد إلى معطيات فلسفة العلم والفيزياء الأخيرة".
وتابع: "كل ذلك يدعو إلى استئناف النظر في المباني الماضية لعلم الكلام، لأن التجديد في المسائل والموضوع والهدف والمناهج واللغة يتطلب تجديدا في المباني، فإذا طال التجديد جميع الأبعاد السابقة، فإن الهندسة المعرفية لعلم الكلام ستشهد تحديثا جديدا، لأن أبعاد كل علم تشكل نسيجا متكاملا فيما بينها، ويوحدها التأثير المتبادل، أي أن أي تحول في أحدها يستتبعه تحول في سائر الأبعاد الأخرى".
وهذا يعني، بحسب النهيري "تخلخل المنظومة السابقة للعلم، وحدوث منظومة بديلة يأخذ فيها كل بعد من أبعاد العلم موقعه الملائم، ويعاد نظم المسائل في إطار يتسق مع التحولات الجديدة في المسائل، والغايات والموضوع والمناهج واللغة والمباني، ومعنى ذلك تجديد الهندسة المعرفية لعلم الكلام".
ولاحظ النهيري أن "هذا التصور لتجديد علم الكلام لا يتضمن رسم حدود دقيقة بين الكلام وفلسفة الدين، بالإضافة إلى أنه يخلط بين الكلام الجديد والإلهيات المسيحية الحديثة، ويبدو هذا التصور أجلى من تصورات أخرى تسعى إلى إيضاح مفهوم تجديد علم الكلام، لكنها تختصر التجديد في بعد واحد، أو تتخبط فلا تكاد تستخلص منها مفهوما متميزا للتجديد".
من جهته قال الباحث الشرعي السوري، أحمد زاهر سالم: "إذا كان علم الكلام ـ كما يقول الإمام عضد الدين الإيجي ـ علما يُقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، وإذا كان موضوعه الذي يميزه عن غيره من العلوم: المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا، فإننا نخلص إلى أن مهمة هذا العلم الجليل إثبات العقائد التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى بالأدلة والحجج برهانية كانت أو مشهورة أو جدلية أو خطابية، فالناس ذوو مستويات متنوعة، وما يقنع هذا وتذعن له نفسه يغاير ما يقنع غيره ويتحقق به الإذعان لله ورسوله والتسليم".
أحمد زاهر السالم.. باحث شرعي سوري
وأردف: "ولذلك فالتجديد في الأدلة التي تحقق الغاية وهي إثبات العقائد الحقة مطلوب مرغوب، أما العقائد نفسها فليست مما يقبل التجديد، ولا يعني التجديد رفض كل ما هو قديم ولا رده، ولا الزعم بخلوه من الفائدة المحققة للغاية، فإن علماءنا قد دققوا النظر وأمعنوا الفكر في الأدلة تدقيقا عاليا يعجز عنه أكثر أهل عصرنا، ولكن المهم تحقيق الغاية وعدم الجمود عند الوسائل، والغاية الثابتة إثبات العقائد الدينية التي جاء بها الإسلام".
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "وأما الأدلة المثبتة لها وطرائق دفع الشبه الواردة عليها فهي متجددة قابلة للتغيير والتعديل، كما أن الحاجة ماسة إلى عرض العقائد والدعوة إليها بأسلوب عصري يصل إلى قلوب وعقول أهل زماننا ويلامس شغاف قلوب شبابنا، وهذا مجال رحب للتجديد يدعونا إلى بذل مزيد من الجهود المحققة للغاية".
وتابع: "ويدعونا كذلك إلى البحث عن الفلسفات والأفكار المنتشرة في زماننا وأهم الشبه المعروضة في وسائل التواصل وفي الأفلام والبرامج والمسلسلات ومناهج التعليم والكتب الفكرية والأدبية حتى نجدد في عرضنا للعقيدة الإسلامية بما يناسب زماننا متمثلين قول الله سبحانه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) فيتحقق بذلك إقامة الحجة على الخلق ودفع الشبهات ودحضها".
ولفت سالم إلى "ضرورة الاستفادة من مباحث علم الكلام القديم، والاستفادة من علوم الكون وأبحاث الفيزياء ونحو ذلك مما له أثر واضح في إثبات العقائد ودفع الشبه، وقد يتعجل بعض دعاة التجديد فيدعون إلى شطب كل قديم واستبداله واستئناف النظر وابتداء البحث، وهذا نزق نفسي وطيش فكري لا يصدر من باحث رزين مطلع بعمق على التراث الثمين العميق الذي تركه لنا فطاحل المتكلمين، ولا ينبغي لباحث يقر أن العلم تراكمي، وأن هذه القضايا المبحوثة قضايا وجودية قديمة قدم الإنسان وليست قضايا جديدة".
وأضاف: "فالإنصاف يقتضي أن يتم الآخر ما بناه الأول، ويكمل نقصه ويستفيد منه ما يناسب زمانه ومكانه، فيبني عليه ويفعل مناهجه، ولا يكرر كل ما قيل مما اندثر قائله وذهب أثره ولا يعطي قضايا قديمة اهتماما كبيرا يضعف الاهتمام بالقضايا المعاصرة".
وانتقد كل من "يظن أن تجديد علم الكلام لا يتحقق إلا بإلغاء المناهج الكلامية، ورد المذاهب الكلامية السنية من الأشعرية والماتريدية فهو مخطئ، فإنها مناهج معتبرة ومذاهب سنية مقررة نجحت قديما في بيان تهافت الفلاسفة، والرد على الباطنية ودفع شبه المعطلة والمجسمة، والرد على أهل الأديان الباطلة والمذاهب الضالة".
ولفت في ختام حديثه إلى بعض إنتاج العلماء المعاصرين ككتاب "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين" للشيخ مصطفى صبري، وجهود الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابيه "كبرى اليقينيات الكونية" و"نقض أوهام المادية الجدلية" وغيرها، وغيرهما من المتكلمين الذين جددوا شباب هذا العلم، وكانوا نماذج يقتدى بها في هذا المضمار.
في نقد مفهومي اكتمال الشريعة والاتباع لدى السلفيين (1من2)
هل تسعى "التنويرية العربية" لخلخلة الثوابت الدينية وتجاوزها؟
ثورات الربيع العربي.. تجارب مختلفة ومصير متشابه.. لماذا؟