"التخريد" مصطلح علمي يستخدم في مهنة المحاسبة وفي أعراف الصناعة أيضاً، ويعني تحويل الأصول الثابتة إلى خردة أو هالك، ويشيع استخدامه في الأدوات والآلات وأشباهها.
ما تشهده
مصر الآن قد يجعلنا نستعير هذا المصطلح بخصوص المدن والقرى والمحافظات التي يتم إهلاكها بالكوارث والإهمال وعدم الصيانة، فتترك نهباً لنوّات الشتاء أو أشعة الشمس الحارقة والرياح الموسمية، أو تلك التي تعاني حالات التصحر أو تآكل الشواطئ.
تعمُّد ترك الأزمات تتراكم قد يحول المدن لما يشبه الأصول الهالكة أو الخردة التي يسهل بيعها بعد تقييمها "بتراب الفلوس".
تتقن العقلية الإدارية المصرية عمليات الإهلاك والتخريد تلك، والتي أخذت في بداية الألفية الثالثة شكلاً أطلق عليه حينها مصطلح "الخصخصة"، حيث برعت كتيبة "عاطف عبيد"، رئيس وزراء مصر وقتها، في تسييل الأصول الصناعية وممتلكات القطاع العام وخصخصتها لمستثمرين أجانب أو مجموعات رجال أعمال الصفوة والطبقة الثرية الجديدة التي صارت نخبة سياسية حول جمال مبارك وقت انشغال والده بملف توريثه الحكم، في الوقت الذي انشغل فيه جمال مبارك نفسه بشراء ديون مصر التي ضارب بها وتربح لصالح المجموعة أو البنوك الأجنبية التي عمِل بها.
قديماً عرفت مصر آلية أخرى من آليات الإهلاك بـ"الحرائق النمطية" التي كانت تشتعل في المصانع المصرية قبل الجرد السنوي، لتخفي بصمات اختلاس مجالس الإدارة.
صورة أخرى من صور
التخريب المتعمد أو ما يعرف في العامية المصرية بـ"الخربأة"، بالامتناع عن الصيانة الدورية لمدة طويلة ثم يتبعها إعداد خطط لصيانة مرتفعة التكلفة تفوق العائد من المصنع ذاته فيتم "تخريده" وبيعه لعدم جدوى الصيانة. ولعل قضية بيع عمر أفندي الشهيرة تصلح مثالاً على ذلك.
من صور التخريد أيضاً استحداث أساليب تقييم للأصول لا تتناسب مع الثقافة القائمة، فتتطلب قدراً كبيراً من الحداثة التي تصير معها الأصول المقومة قديمة حد الهلاك لتباع بلا خجل!
هذه الأساليب وغيرها التي تمثل خلاصة خبرة
الفساد الإداري المصري؛ أزعم أنها انتقلت إلى ما يمكننا تسميته بـ"تخريد المدن"، فالعوامل التي ذكرناها في صدر هذا المقال من تصحر وتآكل وتراخ في الصيانة وإهمال في البُنى التحتية بشكل يُفاقم مشاكل تلك المدن، أو تأخير حلها حتى تتغير معالمها وتتحول للعشوائية شيئا فشيئاً؛ تصبح معها المدينة أو المنطقة أو القرية عبئاً يجب تخريده والتخلص منه بدلاً من
تطويره ورفع كفاءته.
جمهورية جديدة
بدلاً من أن تتوجه الدولة لإحياء المدن ذات العمق التاريخي اتجهت لبناء عواصم ومدن جديدة، مفرِّطة في قيمة تلك المدن. فالإسكندرية تغرق كل شتاء وتتآكل معالمها، والقاهرة تزال شوارعها التاريخية بالبلدوزر، والفيوم نزعت سواقيها السبع التاريخية، والأقصر امتدت الأيادي لنزع "كِبَاشها" التاريخية وفي الطريق لنزع غيرها، ما يمثل توجهاً جديداً لتخريد القديم والخروج منه "بسبوبة" في البيع وإعادة التدوير.
أما المناطق التي تستعصي على هذا السيناريو والتي ما زالت تتمتع بحيويتها وتحتفظ برونقها وأسلوبها العقاري والجمالي، فتمتد لها عوامل التخريب القسري المتعمد تحت لافتة التطوير، حيث تُنتزع بلا سبب معالمها وأشجارها التاريخية، كما يتم في قصر المنتزه وحديقة الحيوان في الجيزة أو حديقة الميريلاند في القاهرة أو حديقة الطفل في المنصورة!
والمناطق الأتعس حظاً تتم إزالتها بالكامل، كمقابر السيدة عائشة والسيدة نفيسة والإمام الشافعي التي تزال رغم ما تحمله من قيمة ضاربة في التاريخ، والمناطق التي تستعصي على الإزالة تُزرع فيها كوبري أو يحفر فيها نفق يشوه معالمها الهادئة فتصير عشوائية رغماً عنها، ما يستدعي التطوير الذي يُدخلها رويداً رويدًا في ماكينة التخريد. مثال ذلك مشروع إقامة كوبري بجوار كنيسة البازيليك التاريخية، والذي شهد موجة اعتراض شعبية ونخبوية، حيث يبدأ من ميدان الاسماعيلية ماراً بشارع عثمان بن عفان وكنيسة البازيليك، ثم مروراً بطول شارع الأهرام ونادي هليوبولس وصولاً للقصر الرئاسي وهي منطقة تراثية بامتياز لا تحتاج كما لا تتحمل هكذا كوبري!
تمضي عجلة تخريد المدن غير عابئة بتاريخ أو جغرافيا أو ثقافة، وبلا أي منطق تتقافز مشروعات التطوير العشوائية التي تتولاها الهيئة الهندسية وأخواتها فوق جنبات المدن القديمة التي تئن من الإهمال المتعمد والفوضى الخلاقة، ما يجعلها مرتعاً لتجار الخردة ومقاولي الهدم وأغنياء الحرب.
يبدو أن مصطلح "تخريد المدن" سيدخل قاموس مصطلحات دولة الفساد، ليعمل جنباً إلى جنب مع آليات الخصخصة وبيع الآثار وتجارة البشر.
في موجة التخريد الجارية على يد طبقة الحكم الجديدة "تندثر مدن" و"تشيد أخرى"، لكن وفقاً لقواعد اللعبة فما يباع في الأولى "خردة" ينصب في ميادين الثانية وقصورها "أثراً".