اتجهت أنظار العالم في الأيام الأخيرة إلى جمهورية
كازاخستان التي شهدت
اضطرابات ومظاهرات شعبية واسعة احتجاجا على ارتفاع أسعار الوقود، تخللتها أعمال الشغب، واقتحام مبانٍ حكومية، وهدم تماثيل الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، تعبيرا عن الغضب الشعبي العارم على النظام الفاسد الذي أسَّسه في البلاد، الأمر الذي دفع الرئيس الكازاخستاني، قاسم جومرت توكاييف، إلى طلب الدعم من أعضاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي، من أجل حماية المنشآت والمباني الحكومية واستتباب الأمن والاستقرار في البلاد. ولم تتأخر
روسيا في الاستجابة لهذا الطلب، وسرعان ما بدأت في إرسال قواتها إلى كازاخستان.
منظمة معاهدة الأمن الجماعي هي تحالف عسكري وسياسي تأسس بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وتضم كلا من روسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجكستان وروسيا البيضاء بالإضافة إلى أرمينيا. ويعني طلب الدعم من هذه المنظمة استدعاء للتدخل الروسي بالدرجة الأولى، حتى لو كانت للدول الأخرى مشاركات رمزية. ولذلك، يرى كثير من المراقبين أن دخول القوات الروسية إلى كازاخستان بناء على طلب توكاييف يشبه إلى حد كبير دخولها إلى سوريا بناء على طلب النظام السوري.
يرى كثير من المراقبين أن دخول القوات الروسية إلى كازاخستان بناء على طلب توكاييف يشبه إلى حد كبير دخولها إلى سوريا بناء على طلب النظام السوري
هناك إشكالية قانونية في دخول القوات الروسية إلى الأراضي الكازاخستانية، لفت إليها الخبير والأكاديمي التركي البروفيسور تشاغري أرهان في مقاله بصحيفة "
تركيا"، وهي افتقار هذا التدخل إلى الشرعية وفقا للقانون الدولي؛ لأن المادة الرابعة لمعاهدة الأمن الجماعي تنص على اعتبار هجوم خارجي تتعرض له إحدى الدول الأعضاء من دولة أو مجموعة من الدول هجوما على كافة أعضاء المنظمة. وتستمد هذه المادة التي دخلت القوات الروسية بموجبها إلى كازاخستان، شرعيتها من المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنظم حق الدفاع الجماعي للدول. وإن كان الرئيسان الكازاخستاني والروسي يتحدثان عن
هجوم خارجي، فإنهما لم يذكرا حتى الآن الدولة أو الدول التي هاجمت كازاخستان.
القراءات لأحداث كازاخستان والآراء حول من يقف وراءها متباينة؛ فهناك من يرى أن روسيا هي التي أثارت الاضطرابات لتتسنى لها فرصة التدخل في هذا البلد
الغني بالثروات، فيما يذهب آخرون إلى أن كازاخستان تعرضت لمحاولة انقلاب أو ثورة ملونة تدعمها الولايات المتحدة ضد النظام المتحالف مع موسكو. وهناك تفسير ثالث للأحداث يقول إن التدخل الروسي في كازاخستان تم بموجب تفاهمات بين الولايات المتحدة وروسيا، ويرى أن واشنطن دعمت الصين ضد الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة، إلا أنها اليوم تدعم روسيا للحد من تمدد النفوذ الصيني من ناحية، وإشغال بكين وموسكو ببعضهما من ناحية أخرى.
كازاخستان من الأعضاء المؤسسين لمنظمة الدول التركية، إلى جانب تركيا وأذربيجان وقيرغيزستان، وتشكل الأحداث الأخيرة تحديا كبيرا واختبارا صعبا لهذه المنظمة الناشئة التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في آسيا الوسطى. وبعد طلب توكاييف دعما عسكريا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي طرح هذا السؤال نفسه: "لماذا لم يطلب الرئيس الكازاخستاني ذاك الدعم من الدول التركية بدلا من روسيا؟".
أحداث كازاخستان أظهرت أن
منظمة الدول التركية ما زالت في بداية الطريق، وأن أمامها مسافة طويلة لتكون لاعبا مؤثرا في آسيا الوسطى ومنافسا قويا لروسيا والصين. ويرى محللون أتراك أنه من الضروري أن تشكل دول المنظمة قوة عسكرية مشتركة لحماية أعضائها، كيلا تحتاج تلك الدول إلى استدعاء القوات الروسية أو غيرها من خارج المنظمة، إلا أن هذه الفكرة تثير نقاشا آخر حول مشروعية التدخل في الدول الأعضاء لقمع الاحتجاجات الشعبية وحماية الأنظمة الفاسدة.
يمكن أن تبدأ الآن بخطوة دعم الإصلاحات التي تعهد بها توكاييف لتحقيق المصالحة والتلاحم بين الشعب والحكومة، بالإضافة إلى خطوات أخرى ترمي إلى رص الصفوف بين أعضائها كيلا تتسلل إليها روسيا أو غيرها
كازاخستان بحاجة ماسة إلى إصلاحات سياسية واقتصادية لتعزيز الديمقراطية والإرادة الشعبية، كما تحتاج إلى التحرر من النفوذ الروسي وشبح الاتحاد السوفييتي. وتعهد توكاييف في تصريحاته الأخيرة بإصلاحات واسعة ترمي إلى تعزيز رفاهية الشعب الكازاخستاني، كما قال الثلاثاء إن القوات التي أرسلتها منظمة معاهدة الأمن الجماعي ستبدأ في مغادرة بلاده "في غضون يومين"، إلا أن هذه التصريحات والوعود لا معنى لها إن لم تتحقق على أرض الواقع.
منظمة الدول التركية أعلنت تضامنها مع نور سلطان، في اجتماعها الذي عقدته على مستوى وزراء الخارجية، كما أبدت استعدادها لدعم كازاخستان بكل ما تحتاج إليه من أجل الحفاظ على أمنها واستقرارها. ومن المؤكد أن المنظمة بدورها تحتاج إلى قراءة الأحداث الأخيرة ودراستها بدقة لترى نقاط ضعفها وقوتها، وكيف يمكن أن تحوِّل سير التطورات لصالحها في المعادلات الدولية والإقليمية. ويمكن أن تبدأ الآن بخطوة دعم الإصلاحات التي تعهد بها توكاييف لتحقيق المصالحة والتلاحم بين الشعب والحكومة، بالإضافة إلى خطوات أخرى ترمي إلى رص الصفوف بين أعضائها كيلا تتسلل إليها روسيا أو غيرها.
twitter.com/ismail_yasa