حين ثار المصريون في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك لم يكونوا يتوقعون الكثير لثورتهم أو انتفاضتهم، كانت مطالبهم بسيطة، ولو تجاوب النظام مع بعضها في التوقيت المناسب فلربما أبقاه ذلك على قيد الحياة حتى الآن، لكن عناده أورثه المهالك، ودفع المتظاهرين لرفع سقف مطالبهم يوما بعد يوم؛ حتى وصلت إلى حد الخلاص من النظام نفسه ومن مبارك شخصيا، وهو ما تحقق لهم في نهاية اليوم الثامن عشر لانتفاضتهم واعتصامهم.
كان اختيار يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2011 للتظاهر في ذكرى عيد الشرطة؛ احتجاجا على مظالمها التي وصلت إلى حد قتل شباب مثل خالد سعيد (الليبرالي) وسيد بلال (السلفي) تحت التعذيب في سجونها، وهو ما تكرر مع مواطنين آخرين من غير السياسيين، وأصبح رعبا يواجه كل داخل إلى قسم شرطة أو مكان احتجاز. ولو أن مبارك أقال وزير الداخلية حبيب العادلي فقد كان المتظاهرون سيعتبرون ذلك كافيا لردع مظالم الشرطة، لكن عناد مبارك دفعه للتمسك بالعادلي، ودفع الثوار لتجاوز العادلي إليه شخصيا.
18 يوما خلخلت أركان نظام مبارك، ودفعته إلى رقصة الاستربتيز، يخلع كل يوم جزءا من ثيابه، فيقيل الحكومة ويشكل أخرى جديدة، ويتخلى عن عناده القديم فيعين نائبا له هو عمر سليمان، ويحيل وزراء وشخصيات كبرى من أركان حكمه للنيابات والمحاكم، ويعد بعدم الترشح هو أو ابنه للانتخابات التي كانت ستحل بعد شهور قليلة، ويأمر بتصحيح عضوية البرلمان المزيف، وبإجراء تعديلات دستورية تلبي طموح المصريين في تعددية حقيقية، وانتخابات تنافسية شفافة، ثم يفوض نائبه في معظم اختصاصاته، وأخيرا يتنحى بشكل كامل مع تصاعد الرفض لكل خطواته السابقة.
لقد كان خلع مبارك عملية تبدو مستحيلة، تشبه خلع ضرس العقل، لكن الثورة فعلتها، وأكدت للمصريين أنهم قادرون على فعل المستحيل حينما يقررون ذلك. وكانت تلك أول ثمار ثورة يناير والتي لا تزال راسخة في نفوس جيل يناير، حتى وإن توارت قليلا تحت قصف القمع الأمني.
تغييرات كبيرة أحدثتها ثورة يناير، وكانت في طريقها لتحقيق المزيد قبل أن يقطع طريقها ذلك الانقلاب العسكري الغاشم في الثالث من تموز/ يوليو 2013، لقد فتحت الثورة باب الحرية واسعا أمام المصريين، فعرفوا طريقهم للتظاهر الحر، وعرفوا طريقهم للإعلام الحر الذي لا يعرف أسقفا، والذي ينتقد الجميع دون خوف، حتى أن المؤسسة العسكرية التي كانت حرما لا يُمس أصبحت مكشوفة للنقد الإعلامي، واضطر قادتها للظهور الإعلامي للدفاع عن أنفسهم، وعن مؤسستهم. وطالت الانتقادات الإعلامية رئيس الدولة المنتخب وعائلته وحزبه وجماعته، وتنافست الصحف والقنوات في تقديم أفضل خدمة للقراء والمشاهدين.
وشعر المواطنون بكرامتهم داخل أقسام الشرطة ومديريات الأمن لأول مرة منذ عقود طويلة، كما بدأت المحاكم محاكمة كبار الفاسدين من النظام السابق، وعلى رأسهم مبارك نفسه وأبناؤه، حتى وإن انتهت الكثير من تلك المحاكمات نهايات هزلية.
وتحررت الحركة الطلابية بعد عقود من التقييد والملاحقة، فأجرت انتخاباتها بكل حرية، كما جرت انتخابات لرؤساء الجامعات وعمداء الكيات ورؤساء الأقسام. وتم حل الحزب الوطني الذي أفسد الحياة السياسية لعقود، ومعه تم حل البرلمان المزيف، وانتخاب برلمان جديد بكل حرية، وبما عكس الخارطة السياسية والحزبية في مصر، كما أقرت الثورة - ونفذت - لأول مرة قانون الحد الأدنى للأجور، وبدأت معركة مواجهة أوكار الفساد في كل موقع.
منحت ثورة يناير أيضا للمصريين دستورا هو الأفضل منذ دستور 1923، ورئيسا مدنيا لأول مرة بعد ستين عاما من حكم الضباط، وبعد أن كان هناك يأس مطلق من فكرة وصول شخص مدني إلى حكم مصر، حيث كان الاعتقاد السائد هو إن حكم مصر قديما وحديثا هو للعسكر.
لقد أثبت وصول الدكتور مرسي إلى قصر الرئاسة أن هذا الحواجز التي كانت موضوعة والقناعات التي كانت راسخة تحطمت، وأصبح الباب مفتوحا لمدنيين آخرين للوصول إلى الرئاسة، حتى وإن سارع العسكر بانقلابهم للعودة إلى تلك الصيغة القديمة!! أما دستور الثورة لسنة 2012 والذي جاء بعد نقاشات مستفيضة بمشاركة كل أطياف الشعب، سواء داخل لجنة الدستور أو عبر وسائل الإعلام أو الندوات العامة والحزبية.. الخ، فهو أفضل دستور منذ دستور 1923 الذي كان نتاجا لثورة 1919. ورغم التشويهات التي أدخلت على هذا الدستور بعد الانقلاب إلا ان روحه لا تزال حية، ولا يزال من بقايا مكتسبات ثورة يناير حتى الآن، رغم أنه لا يطبق عمليا، ورغم أن السيسي وصفه بأنه كتب بحسن نية، ولذلك فهو حريص على تعطيله حتى يتم الخلاص تماما منه.
ليس الدستور (رغم ما لحقه من تشويه) هو المكسب الوحيد المتبقي من ثورة يناير، بل الأهم هو أن روح يناير نفسها لا تزال قائمة في نفوس الكثيرين، ونجد أثرها عند استدعاء هتافات الثورة في المظاهرات السياسية أو الفئوية التي تظهر بين الحين والآخر، وأحدثها مظاهرات موظفي التلفزيون الرسمي للمطالبة ببعض الحقوق الوظيفية.
إن روح الأمل والقدرة على تحقيق المستحيل التي بثتها ثورة يناير لا تزال قائمة رغم كل محاولات نظام السيسي قتل تلك الروح، وكسر إرادة التغيير، عبر القتل والتصفيات والحبس والمطاردة، ولكن هذا النظام نفسه يؤمن أكثر من غيره بوجود تلك الروح، ويخشى انفجارها طوال الوقت، ولا يكل من تكرار حديثه السلبي عنها في لقاءاته العامة والخاصة، أي أن شبح الثورة يطارده في صحوه ومنامه.
كما أن القفزة الكبيرة في الوعي عند المصريين هي من ثمار تلك الثورة، وهذا الوعي يتطور للأمام وليس إلى الخلف، وهو أكثر ما يخيف المستبدين، ذلك أن الظلم في ذاته لا يولد انفجارا، ولكن الشعور - أي الوعي - بالظلم هو الذي يولد الانفجار.
وقد فتحت الثورة عيون المصريين على حقوقهم وواجباتهم، كما فتحت عيونهم على طرق صنع القرار السياسي في الداخل والخارج، وعلى التطورات الإقليمية والدولية وعلاقتها بالأوضاع المحلية، ولم يعد سهلا تضليلهم عبر وسائل الإعلام كما كان الحال من قبل. ولا يعني صمتهم الحالي عما يتعرضون له من مظالم قبولا بها، أو عدم إدراك لها، ولكنها حسابات المواجهة مع القوة العسكرية التي يستند إليها النظام، ولكن لصبر الشعب حدود.
twitter.com/kotbelaraby
كان اختيار يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2011 للتظاهر في ذكرى عيد الشرطة؛ احتجاجا على مظالمها التي وصلت إلى حد قتل شباب مثل خالد سعيد (الليبرالي) وسيد بلال (السلفي) تحت التعذيب في سجونها، وهو ما تكرر مع مواطنين آخرين من غير السياسيين، وأصبح رعبا يواجه كل داخل إلى قسم شرطة أو مكان احتجاز. ولو أن مبارك أقال وزير الداخلية حبيب العادلي فقد كان المتظاهرون سيعتبرون ذلك كافيا لردع مظالم الشرطة، لكن عناد مبارك دفعه للتمسك بالعادلي، ودفع الثوار لتجاوز العادلي إليه شخصيا.
18 يوما خلخلت أركان نظام مبارك، ودفعته إلى رقصة الاستربتيز، يخلع كل يوم جزءا من ثيابه، فيقيل الحكومة ويشكل أخرى جديدة، ويتخلى عن عناده القديم فيعين نائبا له هو عمر سليمان، ويحيل وزراء وشخصيات كبرى من أركان حكمه للنيابات والمحاكم، ويعد بعدم الترشح هو أو ابنه للانتخابات التي كانت ستحل بعد شهور قليلة، ويأمر بتصحيح عضوية البرلمان المزيف، وبإجراء تعديلات دستورية تلبي طموح المصريين في تعددية حقيقية، وانتخابات تنافسية شفافة، ثم يفوض نائبه في معظم اختصاصاته، وأخيرا يتنحى بشكل كامل مع تصاعد الرفض لكل خطواته السابقة.
كان خلع مبارك عملية تبدو مستحيلة، تشبه خلع ضرس العقل، لكن الثورة فعلتها، وأكدت للمصريين أنهم قادرون على فعل المستحيل حينما يقررون ذلك. وكانت تلك أول ثمار ثورة يناير
لقد كان خلع مبارك عملية تبدو مستحيلة، تشبه خلع ضرس العقل، لكن الثورة فعلتها، وأكدت للمصريين أنهم قادرون على فعل المستحيل حينما يقررون ذلك. وكانت تلك أول ثمار ثورة يناير والتي لا تزال راسخة في نفوس جيل يناير، حتى وإن توارت قليلا تحت قصف القمع الأمني.
تغييرات كبيرة أحدثتها ثورة يناير، وكانت في طريقها لتحقيق المزيد قبل أن يقطع طريقها ذلك الانقلاب العسكري الغاشم في الثالث من تموز/ يوليو 2013، لقد فتحت الثورة باب الحرية واسعا أمام المصريين، فعرفوا طريقهم للتظاهر الحر، وعرفوا طريقهم للإعلام الحر الذي لا يعرف أسقفا، والذي ينتقد الجميع دون خوف، حتى أن المؤسسة العسكرية التي كانت حرما لا يُمس أصبحت مكشوفة للنقد الإعلامي، واضطر قادتها للظهور الإعلامي للدفاع عن أنفسهم، وعن مؤسستهم. وطالت الانتقادات الإعلامية رئيس الدولة المنتخب وعائلته وحزبه وجماعته، وتنافست الصحف والقنوات في تقديم أفضل خدمة للقراء والمشاهدين.
وشعر المواطنون بكرامتهم داخل أقسام الشرطة ومديريات الأمن لأول مرة منذ عقود طويلة، كما بدأت المحاكم محاكمة كبار الفاسدين من النظام السابق، وعلى رأسهم مبارك نفسه وأبناؤه، حتى وإن انتهت الكثير من تلك المحاكمات نهايات هزلية.
وتحررت الحركة الطلابية بعد عقود من التقييد والملاحقة، فأجرت انتخاباتها بكل حرية، كما جرت انتخابات لرؤساء الجامعات وعمداء الكيات ورؤساء الأقسام. وتم حل الحزب الوطني الذي أفسد الحياة السياسية لعقود، ومعه تم حل البرلمان المزيف، وانتخاب برلمان جديد بكل حرية، وبما عكس الخارطة السياسية والحزبية في مصر، كما أقرت الثورة - ونفذت - لأول مرة قانون الحد الأدنى للأجور، وبدأت معركة مواجهة أوكار الفساد في كل موقع.
أثبت وصول الدكتور مرسي إلى قصر الرئاسة أن هذا الحواجز التي كانت موضوعة والقناعات التي كانت راسخة تحطمت، وأصبح الباب مفتوحا لمدنيين آخرين للوصول إلى الرئاسة، حتى وإن سارع العسكر بانقلابهم للعودة إلى تلك الصيغة القديمة
منحت ثورة يناير أيضا للمصريين دستورا هو الأفضل منذ دستور 1923، ورئيسا مدنيا لأول مرة بعد ستين عاما من حكم الضباط، وبعد أن كان هناك يأس مطلق من فكرة وصول شخص مدني إلى حكم مصر، حيث كان الاعتقاد السائد هو إن حكم مصر قديما وحديثا هو للعسكر.
لقد أثبت وصول الدكتور مرسي إلى قصر الرئاسة أن هذا الحواجز التي كانت موضوعة والقناعات التي كانت راسخة تحطمت، وأصبح الباب مفتوحا لمدنيين آخرين للوصول إلى الرئاسة، حتى وإن سارع العسكر بانقلابهم للعودة إلى تلك الصيغة القديمة!! أما دستور الثورة لسنة 2012 والذي جاء بعد نقاشات مستفيضة بمشاركة كل أطياف الشعب، سواء داخل لجنة الدستور أو عبر وسائل الإعلام أو الندوات العامة والحزبية.. الخ، فهو أفضل دستور منذ دستور 1923 الذي كان نتاجا لثورة 1919. ورغم التشويهات التي أدخلت على هذا الدستور بعد الانقلاب إلا ان روحه لا تزال حية، ولا يزال من بقايا مكتسبات ثورة يناير حتى الآن، رغم أنه لا يطبق عمليا، ورغم أن السيسي وصفه بأنه كتب بحسن نية، ولذلك فهو حريص على تعطيله حتى يتم الخلاص تماما منه.
ليس الدستور (رغم ما لحقه من تشويه) هو المكسب الوحيد المتبقي من ثورة يناير، بل الأهم هو أن روح يناير نفسها لا تزال قائمة في نفوس الكثيرين، ونجد أثرها عند استدعاء هتافات الثورة في المظاهرات السياسية أو الفئوية التي تظهر بين الحين والآخر، وأحدثها مظاهرات موظفي التلفزيون الرسمي للمطالبة ببعض الحقوق الوظيفية.
روح الأمل والقدرة على تحقيق المستحيل التي بثتها ثورة يناير لا تزال قائمة رغم كل محاولات نظام السيسي لقتل تلك الروح، وكسر إرادة التغيير، عبر القتل والتصفيات والحبس والمطاردة، ولكن هذا النظام نفسه يؤمن أكثر من غيره بوجود تلك الروح، ويخشى انفجارها طوال الوقت
إن روح الأمل والقدرة على تحقيق المستحيل التي بثتها ثورة يناير لا تزال قائمة رغم كل محاولات نظام السيسي قتل تلك الروح، وكسر إرادة التغيير، عبر القتل والتصفيات والحبس والمطاردة، ولكن هذا النظام نفسه يؤمن أكثر من غيره بوجود تلك الروح، ويخشى انفجارها طوال الوقت، ولا يكل من تكرار حديثه السلبي عنها في لقاءاته العامة والخاصة، أي أن شبح الثورة يطارده في صحوه ومنامه.
كما أن القفزة الكبيرة في الوعي عند المصريين هي من ثمار تلك الثورة، وهذا الوعي يتطور للأمام وليس إلى الخلف، وهو أكثر ما يخيف المستبدين، ذلك أن الظلم في ذاته لا يولد انفجارا، ولكن الشعور - أي الوعي - بالظلم هو الذي يولد الانفجار.
وقد فتحت الثورة عيون المصريين على حقوقهم وواجباتهم، كما فتحت عيونهم على طرق صنع القرار السياسي في الداخل والخارج، وعلى التطورات الإقليمية والدولية وعلاقتها بالأوضاع المحلية، ولم يعد سهلا تضليلهم عبر وسائل الإعلام كما كان الحال من قبل. ولا يعني صمتهم الحالي عما يتعرضون له من مظالم قبولا بها، أو عدم إدراك لها، ولكنها حسابات المواجهة مع القوة العسكرية التي يستند إليها النظام، ولكن لصبر الشعب حدود.
twitter.com/kotbelaraby
شارك
المزيد حول هذا الموضوع
المزيد من هذا الكاتب
