إنما يقسو المرء على أهله عتابا مرة ولوما أخرى، فالخيبة يعسر إخفاؤها على كل ذي نظر. الانقلاب يتوسع كبقعة زيت وسخ على ملبس أبيض، ومعارضوه يطيلون في أنفاسه بتردد مفضوح أو حيرة منهجية عسر معها الحسم حتى الآن، رغم يقيننا بأن الانقلاب لا يستند إلى أرضية صلبة، فالفشل يطارده في كل قرار يتخذه. ما لا تكشفه أسبار الآراء المنتشرة كموضة هو مؤشرات الخوف السارية بين الناس، فلا يسمع المرء في كل مجلس إلا عبارة أين يحملنا الرئيس؟ أو ما هي الكارثة القادمة؟
الناس خائفون من الانقلاب ومن معارضيه أيضا، وقليل منهم يكابر أن يعترف بسوء خياره بإسناد الانقلاب أول حدوثه، قلة قليلة لا تزال تتبجح بالولاء. ولولا الجهاز الإعلامي المتطرف في معاداة الثورة ومخرجات
الديمقراطية ما تكلم أحد بعبارة إسناد، أما الخوف من المعارضين فناتج عن ترددهم وتأخرهم في حسم الأمر بالشارع. سأكتب عن هذا التردد لعل أن يستبين لنا طريق.
مظاهرة يوم الأحد لم تتعرض للمنع
كان الأمر مفاجئا، فمنذ لحظة طلب الترخيص بالتظاهر لاحظ قادة الشارع أن الأمن كان منفتحا وطيبا على غير عادته، ولم يمنع استعمال مكبرات الصوت على خلاف كل التحركات السابقة. وفسر المنظمون ومن سار خلفهم ذلك بأن الداخلية تغيرت، وأن ذلك علامة هزيمة للانقلاب بعد الأضرار السياسية التي ألحقها به تحرك يوم الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير الذي قُمع بوحشية وسقط فيه شهيد، ودفع البعض التحليل إلى أن الضغط الدولي قد آتى أكله من خلال تراجع الانقلاب عن قمع الحريات.
لكننا رأينا في مسالمة الأمن للشارع معنى آخر، هو أن الانقلاب لم يعد يخشى الشارع لثقة بلغت به حتى السماح بالتظاهر ضده. إنه يرى نفسه يحقق مكاسب فعلية دون اعتراض جوهري عليه، لذلك قلب معنى التظاهر وأصلح وجهه الديمقراطي ورد على قسوته يوم الرابع عشر. يمكنه الآن أن يقول للخارج المتربص به: "انظروا كم أنا ديمقراطي".
ولا نظن في هذه القراءة استهانة بالشارع المتحرك بصدق، لكن لا يمكن أن نستسلم لسهولة التحليل بتراجع المنقلب. هذا الشكل النضالي لم يعد مجديا ولا يهدد تقدم الانقلاب في فرض خياراته، بل نراه ينتج نتيجة عكسية: استفراغ شحنة الغضب والعودة المنتصرة إلى قواعد السخرية الفيسبوكية التي صار
التونسيون محترفين في صياغاتها. إن السماح لها فيه استهانة بقوتها وفاعليتها ودورها، وفيه دعوة لمواصلتها ما دامت تنتهي دوما بتبادل صور المظاهرة بفرح وسرور، والتي تثبت ديمقراطية الانقلاب وسعة صدره. طيب، هل على المعارضة أن تتوقف عن ذلك حتى لا تخدم الانقلاب؟ هذا سؤال كاشف لغياب خطة نضالية فعالة.
المرور إلى أشكال نضالية أرقى أو الصمت
ليس المطلوب التوقف عن
المظاهرات، لكن وجب وضع حد لمظاهرات عقيمة. في هذا الكلام خلف الحاسوب مزايدة، نعم، لكن قطع طريق الانقلاب في تفكيك المؤسسات وتخريب الدولة يستحق البروز له بشكل أكثر نجاعة.
إننا نستغرب بقاء السادة القضاة في درجة التنديد بحل مجلسهم، يصدرون بيانات التنديد والرفض ويواصلون العمل كأنهم متفرجون على مصيبة في بيت الجيران؛ وهم القادرون على العصيان المدني. لحرية القضاء واستقلاله ثمن وجب دفعه من الجسم القضائي قبل غيره، فالبيانات في هذا الوضع دليل جبن سياسي.
إننا نستغرب اكتفاء الأحزاب السياسية ببيانات التنديد والتعاطف مع الجسم القضائي دون نقل حركة الغضب إلى الشارع حول كل محكمة، في شكل اعتصامات مفتوحة. سيقول كثيرون إن في هذا قطع أرزاق كثيرة، لكن السؤال الذي سيحل قريبا: هل بقي رزق ليقطع تحت سماء انقلاب غاشم؟
المحامون قادة تحركات نضالية ولهم تاريخ ناصع يراقبون عميدهم يخون المهنة والقطاع ويكتفون بحديث إعلامي مؤدب تجاه العميد الذي خان منتخبيه. والحال أن تاريخهم كان محطات فخر لقطاعهم وللنضال الديمقراطي عامة. ما سر هذا التردد في الخروج ضد الانقلاب؟ هل هي الحسابات السياسية؟
ما يقال عن مكونات جسم العدالة يقال عن بقية الجبهات النضالية التي انتظرها الناس لتحسم أمر الانقلاب، خاصة بعد ظهور مؤشرات كثيرة على فشله؛ أهمها تأخر الرواتب في الشهور الثلاثة الماضية وغلاء الأسعار واختفاء السلع الأساسية.
هذا التردد كاشف لخوف كبير من مواجهة الانقلاب ونقل المعركة معه إلى ساحة الشعب؛ الذي ينتظر بروز قيادة جديدة فعالة ولها خطة وبرنامج.
كلما تأخر الخروج عليه كلما عسر الخروج منه
في المعركة مع الانقلاب معركة مع آثاره من بعده، وهو ما نرى المعارضات المتعددة تنكره أو تهرب منه. فالقائلون بالتريث حتى يسقط من تلقاء نفسه يتعمدون إغماض أعينهم عما بعده، إنهم يخشون تخيل الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي يخلقها ويزيد في تعفينها كل يوم. أسمع كثيرين يقولون: "الويل لنا مما بعد الانقلاب"، ولكن كل يوم يزيده الانقلاب في إدارة البلد بطريقة معالجي سرطان الدم بالمراهم يضاعف المشاكل في ما بعده. وهذه حقيقة جلية لكل ذي نظر، فإلى متى الهروب وإلى أين؟ ما من معجزة ستحدث بعده إلا معاناة آثاره المدمرة التي سيتحمل كلفتها المعارضون المترددون.
في مقدمة هؤلاء المترددين حزب حركة النهضة المالك الحقيقي للشارع المعارض، إنه يفرط في تقدير الأخطار المحتملة من المواجهة ويتغافل عن أن الخروج على الانقلاب هو خروج للحكم من بعده بشجاعة، مكلفة نعم، ولكنها منتجة لصورة حزب يتحمل مسؤوليته التاريخية في قيادة الشارع وتطمين الناس على مصيرهم من بعده. الخروج على الانقلاب موعد نضالي لا يتكرر، وقد دفع بعض الثمن ولا زال الانقلاب يطلب الدم، ولكن للدم ثمن في زمن قادم وهنا التقطنا نقدا كثيرا للتردد بعد تحرك 13 شباط/ فبراير.
فرصة تاريخية متاحة أن من يسقط الانقلاب يمتلك شهادة في حماية الديمقراطية، وسيكون لهذه الشهادة وزن في صندوق انتخابي قادم ولو بعد زمن بعيد (أو غير منظور الآن)، والحسابات المحدودة تنتج أمجادا قصيرة الأمد.
لنختصر: الانقلاب فاشل والجميع فقد الأمل منه لكن معارضيه خائفون مترددون ويحسبون حسابات تجار صغار ولا يريد أي منهم دفع كلفة المعارضة، هكذا كان الأمر زمن ابن علي وهو يتكرر أمام أعين العالم.
الانقلاب يتقدم كبقعة زيت وسخ في ملبس أبيض، ولكن معارضيه يخشون تحمل كلفة إسقاطه ويحسبون مكاسبهم في ما يليه، وهذا سقوط أخلاقي ونضالي وسياسي. سأجلس بصفتي مواطنا مخذولا من الانقلاب ومن معارضيه في مقعد المزايدة حتى أرى حركة الخروج في عصيان مدني، وأحمل بصفتي مواطنا جزءا من الكلفة، فالأرواح بيد الله بعد.