يعتقد الكاتب والمفكر الجزائري الدكتور عبد الرزاق مقّري رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية "حمس"، أن الاستمرار في الترويج للفصل النكد بين العلم والإيمان والدين والدولة، هو تضليل لا مسوغ عقليا أو تاريخي له، وأن الفهم الصحيح للعلاقة بين الدين والدولة تكاملي يدعم بعضه بعضا، وأن الإيحاء بوجود تناقض بينهما هو دليل انحراف في الفهم.
قراءة المفكر الجزائري المنشغل بالنشاط السياسي الحركي من دون أن يغفل الجانب الفكري، والتي تنشرها "عربي21" كل يوم خميس من الأسبوع، بالتزامن مع نشرها على صفحته الخاصة على النترنت، تأتي انطلاقة من إعادة قراءة تأسيس العلاقة بين الدين والدولة كما تمثلت في نموذج الهجرة النبوية إلى المدينة، وما تلاها من عصور راوح فيها العالم الإسلامي بين النهوض والأفول، ثم يقدم قراءته لذات العلاقة كما بدت في قيام وتطور الدول الغربية.
جون لوك (1632- 1684)
طبيب وفيزيائي واقتصادي وعالم اجتماع وفيلسوف. من أكثر من أثر في حركة التنوير في فرنسا وأمريكا وفي تجسيد الفكر العلماني في الشأن العام السياسي والاجتماعي. وهو من الآباء الأولين لنشوء الليبرالية السياسية والاقتصادية، والتوجهات الفردانية، ومن أوائل فلاسفة المنهج التجريبي وممن أسس فلسفة العلوم أو الابستمولوجيا.
وأشهر مساهماته هو ما يتعلق بفكرة: القانون الطبيعي" و"العقد الاجتماعي" إلى جانب هوبس من قبله، وجان جاك روسو من بعده، على ما يوجد بينهم من اختلافات جوهرية في هذا الموضوع.
لقد كان جون لوك رجلا موسوعيا متحكما في العديد من اللغات ومنها اللغة العربية وكان مطلعا على إسهامات الفلاسفة المسلمين، على رأسهم الفارابي وابن رشد وابن الطفيل وابن خلدون، الذين سبقوه في العديد من أفكاره الأساسية ومنها ما يتعلق بالمنهج التجريبي، وخصوصا ما يتعلق بفكرة احتياج الإنسان للحياة الاجتماعية من أجل أن يتعاون البشر على تحقيق مصالحهم ومنها حاجتهم لحاكم تنتظم به شؤونهم.
وبقدر تأثر جون لوك بالفلسفة الإسلامية واطلاعه الواسع على الفلسفة الاغريقية ومن سبقه من الفلاسفة الأوربيين، أمثال ديكارت وماكيافيل وهوكر وهوبس، تأثر كثيرا بالأحداث السياسية والصراعات الدينية في أوربا وخصوصا في بلاده انجلترا.
وتعتبر كتبه الأساسية هي استجابة لتلك الأحداث منها كتاب "التسامح" الذي عالج به تعدد المذاهب البروتستنتية الناشئة المتصارعة في بريطانيا، وكتاب "عن الفهم الإنساني" الذي تناول فيه المنهج التجريبي وكتاب "الحكومة المدنية" الذي فصل فيه مبدأ العقد الاجتماعي.
بالرغم من أن جوك لوك كان يؤمن بمركزية العقل في المعرفة غير أنه يعتبر أن التجربة هي التي تغذي العقل بالمعارف، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلاني مثل ديكارت ولايبتز وسبينوزا، وقد ذهب بعيدا في ذلك إلى حد إنكار الأفكار والمعارف والأحاسيس الفطرية فيعتبر أن الإنسان يولد صفحة بيضاء (tabula rasa) وتأتي الخبرة التجريبية تكتب عليها ما تشاء. وكانت هذه الفلسفة التجريبية المطلقة (l'empirisme) علامة أساسية لابتعاد جون لوك عن المسألة الدينية، فهو خلافا لديكارت يعتبر أن الإنسان عليه أن يصل إلى الأفكار اليقينية بالمنهج التجريبي، أما ما يتعلق بالمعتقدات الدينية فهي متعلقة بالمسلمات الإيمانية التي إذا كانت تنفع في المجالات التي لا يدركها العلم فإنها لا يجب أن تناقض ما تم إثباته يقينيا بالعلم.
ينظر لوك إلى الدين كحقيقة اجتماعية يجب أن تبقى في الإطار الفردي بما يحقق السلام الداخلي ويوجه للأخلاق الفاضلة. ولا يحق للحاكم أن يهتم بالشؤون الدينية. فإن الله، بالنسبة للوك، لم يكلف أحدا بتحقيق السلام الداخلي للبشر، ولو أراد الحاكم ذلك لا يستطيع لتعدد الديانات، غير أنه يستطيع فرض ديانة دون غيرها إذا كان ذلك مفيدا للحكم.
ولوك في حد ذاته عرف اضطرابات في معتقداته، فهو بالرغم من أنه كان خريج المعهد الكنسي إلا أنه انتهى في آخر عمره إلى إنكار التثليث، ولهذا يعتبره بعض الباحثين في فلسفته بأنه كان يتبع ديانة مسيحية توحيدية أريسية أو سوسينيانية، ويعتبره آخرون أنه كان ربوبيا يؤمن بالله دون الإيمان بالأديان، ويعد منهجه التجريبي المطلق المنكر للفطرة البشرية هو ما يرجح ابتعاده عن المعتقدات الدينية.
ينظر لوك إلى الدين كحقيقة اجتماعية يجب أن تبقى في الإطار الفردي بما يحقق السلام الداخلي ويوجه للأخلاق الفاضلة. ولا يحق للحاكم أن يهتم بالشؤون الدينية. فإن الله، بالنسبة للوك، لم يكلف أحدا بتحقيق السلام الداخلي للبشر، ولو أراد الحاكم ذلك لا يستطيع لتعدد الديانات، غير أنه يستطيع فرض ديانة دون غيرها إذا كان ذلك مفيدا للحكم.
يعتبر لوك من مؤسسي النزعة الفردانية الليبيرالية على أساس مقاربته للقانون الطبيعي حيث يعتبر أن الإنسان يولد حرا ويبقى حرا كفرد وليس كعضو في المجتمع، وأنه لا سلطان لأي قوة اجتماعية عليه سوى ما يكتشفه بعقله من حدود لحريته من خلال التجربة. وأن حقوقه الطبيعية تتمثل في الحق في الحياة والحرية والتملك وتأسيس عائلة وفي الدفاع عن هذه الحقوق. وهو، خلافا لنظرة هوبس للقانون الطبيعي، لا يعتبر أن الإنسان كائن متوحش في حرب دائمة مع أخيه الإنسان، بل من القوانين الطبيعية ضمان استمرار النوع البشري باحترام كل إنسان حر لحياة وحرية وأملاك الآخر حين تكون حياته وحريته وأملاكه غير مهددة. وإنما يتفق مجموع الناس على التنازل للحاكم ليحكم بينهم وليحتكر قوة الإكراه حتى يحمي الحقوق الطبيعية لكل فرد منهم، غير أن سلطة الحاكم ليست مطلقة، كما هي عند هوبس، فهي مقيدة بالقوانين التي يصدرها الشعب عن طريق ممثليه، ومن حق السكان الاعتراض على السلطات التنفيذية، بل مقاومتها بالثورة عليها في حالة الإخلال بالعقد.
لقد تواءمت أفكار جون لوك مع الحالة السياسية في انجلترا وايرلندا واسكتلندا وتراجع الملكية المطلقة لصالح السلطات البرلمانية، ولذلك يعتبر لوك من منظري توازن الحالة السياسية والقانونية التي انتهت إليها الملكية الدستورية البريطانية، غير أن أفكار لوك كانت أساسا فلسفيا مؤثرا للحركة التنويرية في أواخر القرن الثامن عشر التي قوضت الملكية المطلقة وأزاحت الدين عن الحكم في فرنسا ورسخت النمط الجمهوري في هذا البلد وفي الولايات الأمريكية المتحدة.
يخالف جون لوك توماس هوبس في فلسفته المادية ويعتبر أن ثمة حقائق غيبية غير مادية لا يستطيع الإنسان فهمها، ولكنه يضع هذه الحقائق، مثل هوبس، في المستوى الشخصي وأن لا يكون لها علاقة بالحكم، وأن القوانين التي تحكم الناس يجب أن تكون وضعية هدفها حماية الحقوق الطبيعية للإنسان.
وباعتبار أن لوك يعتبر الملكية حقا مطلقا تكتسب بالعمل فإنه يعتبر أن دور الحاكم حماية المُلاّك وليس التدخل في شؤونهم الاجتماعية، وأن كل إنسان مالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وأن كل ما يقع تحت يد إنسان مما هو متروك من غيره يصبح ملكه إذا خدمه وأحياه.
وعلى أساس هذه الأفكار الليبيرالية، المجردة من الأبعاد الأخلاقية النابعة من الوحي والفطرة الإنسانية، يُعتبر لوك من مؤسسي الليبرالية ونظامها الرأسمالي المتناقض في مسألة إحقاق حقوق الإنسان، فهو من أبرز الفلاسفة الذين برّروا نهب أراضي الهنود الحمر في أمريكا بحجة أنها أراضي غير مستغلة، بل أجاز في كتابه الشهير "عن الحكومة المدنية" اعتبار الهنود الذين يقاومون "المعمرين" الأوربيين كالمجرمين الذين يجب قتلهم كما تُقتل الوحوش. وعلى أساس أفكاره الليبرالية كان جون لوك من أكبر مؤسسي وداعمي شبكات تجارة الرق وكان مساهما أساسيا في الشركة المَلكية الافريقية التي تُعد من أهم ركائز تجارة الرقيق وقد ملك في حياته عشرات العبيد. وخلافا لآرائه بأن لا يحمل الإنسان وزر غيره وأن الأولاد لا يرثون العقوبة يقرر في كتابه أن العبودية حالة أبدية تورث عبر الأجيال وأن دخول العبد الأسود المسيحية لا يعطيه حق الحرية عند سيده، وأن هؤلاء السادة المُلاك يملكون السلطة المطلقة على العبيد مهما كانت آراء وديانة هؤلاء العبيد.
إن هذا السبيل المتنافض بين القول والفعل لدى هذا الفيلسوف الأوربي الكبير الذي يُعد مرجعا أساسيا لفلسفة الحقوق والحرية والديموقراطية هو ذات السبيل الذي سلكه المستعمرون الأوربيون باسم المسيحية في العالم الجديد الذي اكتشفوه أو في البلدان التي احتلوها، فالحضارة الغربية لا تخالف توجهها في التعامل مع الشعوب الأخرى من حيث الظلم والقهر والاستغلال والعنصرية سواء أثناء تمسكها بديانتها المسيحية في نشأتها أو أثناء ابتعادها المتدرج عن الدين.
كما أننا حينما نتابع كتابات جون لوك، هذا الفيلسوف الإنساني الكبير، نفهم خلفيات الفكر الاستغلالي لليبرالية الغربية تجاه الفئات الضعيفة الذي صرنا نراه اليوم حتى داخل المجتمعات الغربية. فلوك قعّد لصالح الماكنة الصناعية الرأسمالية الصاعدة التي انتجتها الثورة الصناعية ابتداء من القرن الثامن عشر فنظّر لكيفية تشغيل الأطفال والنساء ضمن الظروف القاسية المعروفة في تلك الفترة، ودعا في كتابه " أتلانتيس" (Atlantis) إلى التحكم في الفقراء ومنع حركة المتسولين وسجنهم في ملاجئ العمل (workhouses).
إقرأ أيضا: الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (1)
إقرأ أيضا: الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (2)
إقرأ أيضا: الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (3)
إقرأ أيضا: الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (4)
الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (4)
وزير تونسي سابق لـ"عربي21": أحلام المثقفين قيّدها المستبدون
ماذا وراء تجدد الجدل العقدي حول الصفات الإلهية؟