كنت من أوائل من نادوا بالتوافق الوطني إبان 14/01/2011 كما كنت من أوائل
من دعا لمحاسبة كلّ من شارك في انقلاب 25 تموز (يوليو)، وكلا الموقفين مبدئيّ وسياسيّ سليم.
لكنّي اليوم ـ مع تفاقم الأزمات في
تونس ـ أرى مشروعا توافقيا يرتكز
على شرعية مهزوزة لكنه يبقى في إطارها، يغلب فيه السياسيّ المبدئيً البراغماتيّ
على السياسيّ المبدئيّ المثاليّ، غايته حقن الدّماء وتجنّب سفكها، لأن دم التونسيّ
وإنْ أخطأ غال، فأنا من أنصار الحلّ السلميّ التوافقي، وعلى قناعة تامة أن هشيم
الفوضى يزداد يوما بعد يوم وإن اشتعل فلن يوقفه إلا أنهار من دماء، ولن يوقفه إلاّ
من يحمل الشّعب على الطاعة وهم أذلّة.
وقبل الغوص في طرح الحلول التي نحسبها ممكنة الإنجاز، علينا أن نعدّ
الفرضيات الممكنة من الناحية النظريّة البحتة بغض النظر عن حسنها أو سوئها. الأكيد
أن بعضها سياسيا لا يجدي ولا يمتطيها إلا المغامر الفاسد لأنّها غير واقعية.
1 ـ استمرار منظومة 25 تموز (يوليو)
1 ـ 1 ـ بقاء قيس سعيد رئيسا بحكم شرعيته
الانتخابية إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، وانتخاب مجلس نواب شعب.
2 ـ 1 ـ إخراج قيس سعيد من الحكم وتغييره حسب دستوره برئيس المحكمة
الدستورية، ولأنها لم تركز إلى الآن، يمكن التوافق حول هيئة يمكن الرجوع لها، قد
تكون المجلس الأعلى للقضاء. وهذا طرح السيد أحمد نجيب الشابي.
3 ـ 1 ـ إبعاد قيس سعيد وحكومته ويحتل مكانهما الجيش للسلطة التنفيذية وربما
للسلطة التشريعية يعمل عبر مراسيم وسواء حددت مدة بقائها وفضائها. حتى تنظم
انتخابات رئاسية وبرلمانية سابقة لأوانها وحتى لا يفهم خطأ، فجيشنا جيش مدني يأبى
أن يضع نفسه في مثل هذه المواقف، ولكنها من الناحية النظرية ممكنة.
4 ـ 1 ـ مجلس حكم يتكون من أعضاء المؤسسات التي اعتمد عليها قيس سعيد.
2 ـ إلغاء منظومة 25 تموز (يوليو)
تستوجب عزل قيس سعيّد وكلّ مؤسّساته السياسيّة، إذ أنه لن يقبل
بالعودة إلى دستور 2014 ثم الدعوة إلى انتخابات مبكرة رئاسية وبرلمانية.
2 ـ 1 ـ العودة إلى دستور 2014
يصبح فيها الأستاذ راشد الغنوشي رئيسا مؤقتا للدولة، وتخلفه الأستاذة
سميرة الشواشي على رئاسة مجلس نواب الشعب وتتفق الأطراف السياسية على رئيس حكومة
لتصريف الأعمال لفترة تنتهي بعد الانتخابات مباشرة.
2 ـ 2 ـ مجلس حكم يخلو من كل من تورط في الانقلاب.
لكن هاتين الفرضيتين مستحيلتان ومعلوم ذلك عند القاصي والداني.
3 ـ إلغاء ما كان قبل وبعد 25 تموز (يوليو)
إن المراهنة على الشارع الاجتماعي الذي بدأ يتحرك بسبب تعفن الأوضاع
الاجتماعية وغلاء المعيشة وضعف المقدرة الشرائية ستؤدي إلى انتفاضة شعبية كبرى
تتجه نحو قصر قرطاج والقصبة. وهذا الحل مخيف إذا أن تونس لا تملك مكونات إعادة
البناء الاقتصادي ولا برامج تنموية، وقيس سعيد لم يتوان في زرع البغض والحقد والفتنة
داخل العائلة الواحدة، حتى صارت قابلية الاقتتال داخل الأسرة الواحدة ممكنا.
فالانتفاضة التي وإنْ انطلقت لن تكون انتفاضة من أجل عودة الدولة
وهيبتها أو عودة الأمن، بل ستكون انتفاضة من أجل الانتقام من كل شيء، انتفاضة
لصالح الفوضى على حساب التعايش السلمي.
لم تكن نتائج الانتخابات الأخيرة في تونس، إلا نتاجا لتردي الوضع
السياسي في البلاد والبنية التحتية لمشروع الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي أيقن
أخيرا وربما ليس بعد، أنّ الفردانية لا تخلق نموذجا مثاليا ولا يمكن أن تكون حلا.
والذي عليه أن يستوعب أنّه جرّ البلاد إلى مستنقع سياسي اجتماعي اقتصادي سيدفع
التونسيون ثمنه باهضا.
11,22 ٪ هي نسبة الإقبال الرسمية على الانتخابات التشريعية في تونس،
ورغم علم القاصي والداني أنها أقل من ذلك فهي تبقى أضعف نسبة تشهدها انتخابات في
التاريخ الحديث، ولذا تسقط كل سرديات الرئيس التونسي حول الشرعية والمشروعية أولا
وحول قدرته على تجميع التونسيين ثانيا وحول جدوى مشاريعه الهلامية ثالثا.
منذ 25 تموز (يوليو) 2021، تاريخ سقوط البلاد في يد الرجل الواحد،
أمعن سعيد في اتجاهه نحو التفرد بالحكم ومحاولات لإثبات دوره كرجل منقذ وحيد
للبلاد، مع إقصاء كلي لكل الأجسام الوسيطة في البلاد. لكن وسط كل هذا ومع مرور
وقت، انفض أغلب مسانديه من حوله من مستشارته في القصر إلى أساتذة القانون وصولا
إلى الناخبين.
فشله في الانتخابات وهذا ما فاجأ شبه حلفائه الروس الذين اعتقدوا أنه
يمسك بزمام الأمور، سبقه فشل في زيارتين، الأولى إقليمية إلى القمة الصينية ـ
السعودية التي لم تضف مخرجاتها إلى رصيد تونس شيئا سوى دعم صيني للتنمية في تونس
ورفضها للتدخل في شؤونها، وهو ما ورد على لسان الرئيس الصيني ولم نلمسه بعد
واقعيًا. دون ذلك فقد قال الرئيس سعيد كلاما في القمة فضفاضا كعادته.
أما ثاني زيارة فاشلة كانت للرئيس هي للولايات المتحدة الأمريكية
خلال القمة الأمريكية ـ الأفريقية، وكان أبرز لقاء فيها للرئيس التونسي مع وزير
الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي قالت الرئاسة التونسية إنّه جرى لتبين
حقيقة الوضع في تونس ودحض الادّعاءات المسيئة إلى صورة تونس في الخارج، وتناول
العلاقات المتينة بين البلدين.
ووفق البيان الأمريكي شدد الوزير بلينكن على أن هذه "العلاقة
تكون أشد متانة عندما يكون هناك التزام مشترك بالديمقراطية وبحقوق الإنسان. مع
التأكيد على أهمية إجراء انتخابات برلمانية حرة ونزيهة يوم 17 ديسمبر، فضلاً عن
إجراء إصلاحات شاملة لتعزيز الضوابط الديمقراطية والتوازنات بين السلط وحماية
الحريات الأساسية".
كما شاركت الخارجية الأمريكية بعد صدور النتائج الأولية للانتخابات،
بيانًا دعت فيه إلى زيادة توسيع المشاركة السياسية خلال الأشهر المقبلة في البلاد.
مع تواصل العملية الانتخابية عام 2023، "نعيد التأكيد على أهمية تبني إصلاحات
شاملة وشفافة، بما في ذلك تمكين هيئة تشريعية منتخبة، وإنشاء المحكمة الدستورية،
وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع التونسيين".
مع العلم أنّ تونس ليست من الدول المدعوة لحضور القمة الديمقراطية
التي تحتضنها الولايات المتحدة الأمريكية، كما حذف مجلس صندوق النقد ملف تونس من
جدول أعماله بالتزامن مع زيارة سعيد لأمريكا.
أمام هذا الواقع يصعب للباحث الخروج بمعادلة لإنقاذ تونس من نفقها،
ولذا نرى أنفسنا مرة أخرى أمام ضرورة النبش داخل التوافقات الممكنة لمن ومع من؟
لا أحسب أننا سنجد حلا ممكنا إلا من خلال مشاركة الجيش الذي اعتبر نفسه مع الخيار الشعبي في 14 كانون الثاني (يناير) وفي 25 تموز (يوليو) 2021
وقبلها لا بد أن نفرق بين مؤسسات الدولة وبين من تجندوا من أحزاب
ومنظمات وأفراد لصالح الانقلاب، فلئن جزمنا افتراضا أن مؤسسات الدولة قد غرّر بها،
فإن المنظمات والأحزاب والشخصيات السياسية الذين وقفوا إلى جانب الانقلاب الى حد
هذه اللحظة ويدافعون عنه وشاركوا في الانتخابات فلا نقاش معهم.
ولا أحسب أننا سنجد حلا ممكنا إلا من خلال مشاركة الجيش الذي اعتبر
نفسه مع الخيار الشعبي في 14 كانون الثاني (يناير) وفي 25 تموز (يوليو) 2021 ولذلك
فإني أرى:
أن يستلم مجلس حكم مختلط مكون من رئيس مجلس نواب الشعب وممثلي الجيوش
الثلاثة يكلفون رئيس حكومة لتصريف الأعمال والقيام بانتخابات رئاسية وتشريعية.
ورئيس حكومة يكلف بدوره حكومة مصغرة غير سياسية يلتزم فيها كل افرادها بعدم الترشح
للانتخابات، ثم يعزز مجلسُ الحكم نفسه برئيس الحكومة ووزير الداخلية والدفاع
والخارجية والمالية والاقتصاد ومحافظ البنك المركزي حتى يكون بمثابة القيادة
التنفيذية والرقابية للدولة عبر مراسيم.
فيعمل مجلس الحكم على تنقيح القوانين الداخلية للمجلس النيابي لتكون
ملزمة ويدرج باب العقوبات لمن يتعدى على حرمة قانونه الداخلي من نوابه.
يقوم المجلس النيابي بإعادة صياغة بعض فصول الدستور والقانون
الانتخابي وقانون الأحزاب.
يلتزم المجلسان بإحداث محكمة دستورية قبل موعد الانتخابات والاستعانة
بلجنة خبراء من فقهاء الدستور الجامعيين غير الذين انتصروا للانقلاب يكون تحت
قيادة مجلس الحكم.
المطلوب من الجيش أن يقف على نفس المسافة من التونسيين، وأن يكون
شاهدا على تأسيس مجلس حكم يضم عقدا اجتماعيا جديدا الى حين اجراء انتخابات تشريعية
ورئاسية.
وبعدها تلتزم المؤسسات لدستور البلاد ولمدنيتها، في ظل حكم ديمقراطي
وقضاء مستقل.
ولئن نجحت تونس في الخروج من أزمتها فإنها ستقدم مرة أخرى للعالم
بأسره درسا أن البلاد شعبا ومؤسسات لا تريد إلا الحرية والديمقراطية والتعايش
السلمي لتصبح مثلا يحتذى به.