مشهدان للجيش التونسي لن يفارقا مخيّلةَ التونسيّين، ولن يمحوهما التاريخُ عبر العصور:
• المشهد الأول: يوم 14 كانون الثاني/جانفي إلى استلام الباجي قايد السبسي رئاسة الحكومة، والجيشُ مُتَمَاهٍ وملتحمٌ بإرادة الشعب، مستعدٌ للذوْد عنها، أثبت أيّامها للعالم أنّه جيشٌ جاهز للمشاركة في بناء الدّولة المدنيّة التعدديّة التونسيّة، بعد دولة قرطاج، لكن بمفاهيم عصرية. مشهدٌ وحّد الشعبَ وزاده اعتزازا بمؤسسات دولته.
اقرأ أيضا الجزء الأول: فرصة أخرى أمام قيادات الجيش التونسي (1)
• المشهد الثاني يوم 25 تموز/جويلية ودبّاباتُ العسكر تُغلق مقرَّ رئاسة الحكومة، وداخل ساحة البرلمان وتمنعُ رئيسَه من دخول الدستوري، مشهد انقسم حوله الشعب بين مؤيد ورافض، جعل الكثيرين يبحثون عن تفسير إيجابي لتبقى صورة الجيش المدني غير مشوبة في مخيلتهم.
فالجيش التونسي لم يلتزم إبّان 14 كانون الثاني/جانفي بالمربعات التي حددها له بورقيبة وبن علي فقط، فرغم انخراطه في حماية مؤسسات الدولة على مسمع التونسيين، إلا أنه اختار مرافقة وحماية الثورة والوفاء لتطلعات الجماهير نحو الحرية، وساند الإرادة الشعبية في إسقاط نظام الفرد وتركيز الدولة التشاركية، لما عرفه بنفسه من قهر وتسلّط منذ تأسيسه، موقفٌ أكسبه قدرا من علوّ المقام والاحترام والحب لم يبلغه جيش عربي، وجعل منه مؤسسة لا يمكن أن يَطالها النقدُ أو الانتقاد، فلا أحدٌ يشكّك في وطنيّتها ولا مدنيّتها ولا نظافة يدها.
دور الجيش منذ تأسيسه إلى سقوط نظام الفرد:
كان بورقيبة مقتنعا أن الدولة "المدني البورقيبيّة" لن تتواصل إلا ضمن مقولته "سياسة قوية وجيش ضعيف"، فبالرغم من أن مهمّة الجيش انحصرت بين حماية البلاد من الاعتداء الخارجي والتدخل لحماية مؤسسات الدولة من خطر الانهيار، إلا أنّ السلطةَ لم تضمن للعسكر الحدّ الأدنى من آليات الدفاع لأداء الدور المناط إليه، فقد تدخّل طيران أجنبي في قفصة لدفع العدوان الليبي سنة 74، كما لم يكن في استطاعة الجيش التونسي ردُّ العدوان الإسرائيلي على حمام الشط سنة 85.
استعمل الجنرالُ "بن علي" المنحدرُ من الجيش في انقلابه على بورقيبة المؤسسةَ الأمنيّةَ، مديرا ظهره للجيش ليستولي على الحكم، وقد كان اشتغل رئيسا للمخابرات العسكرية وملحقا عسكريا في بلديْن، وواصل التمسّك بالمقولة البورقيبيّة تجاه المؤسسة العسكريّة.
ولكن لمّا قرّر بن علي ضربَ كلّ نفس حرّ معارض في البلاد والانفراد بالسلطة، لم يستثن العسكرَ، بل نكّل بهم سنة 91 فيما عُرِف بـ"براكة الساحل" في مظلمة صارخة لا تغتفر، نكّلت فيها وزارة الداخلية بأكثر من 240 عسكريا، من بينهم 25 من كبار الضباط وما يزيد عن 80 ضباطا.
ورغم أن السّبب كان عطبا فنيّا، فقد اتُّهم بن علي بإسقاط المروحية العسكرية سنة 2002 قصدا، التي كانت تُقِلّ رئيسَ أركان قوات البرّ "عبد العزيز سكيك" و 12 من كبار معاونيه من الضباط.
بقي الجيش بعيدا عن الحسابات السياسية والاجتماعية في فترة بن علي، نقيّا من الرشوة والفساد، وفيّا لمبادئه المدنيّة، حتى طُبع في مخيّلة الشعب التونسي "جيشنا" جيش جمهوري مدني بامتياز.
دور الجيش بعد 14 كانون الثاني/جانفي 2011 إلى 25 تموز/جويلية 2021:
إبّان سقوط بن علي، اكتشف الشعبُ التونسي الدّورَ الايجابي الذي أداه الجيشُ في حماية الثورة، وبرز أسئلةٌ عن دوره في إزاحة بن علي، وهل سيلتزم بعقيدة الحياد ومربّع المدنية التي تأسس عليها، أم سيتخلى عنها ليؤدي دورا في المشهد السياسي؟ وإن كان كذلك، ففي أي المواقع: التنفيذي أم التشريعي أم التأسيسي؟
ورغم النداءات العديدة لبعض التونسيّين للجيش بالانخراط في الحياة السياسية، إلا أنه أصرّ على عدم المشاركة في صنع القرار السياسيّ أو حتى توجيهه، كما هو الحال في عديد البلدان العربية الأخرى، وفاجأ الشعبَ بانسحابه من الحياة السياسية وبعودته للثكنات، بعد انخراطه في حالة الطوارئ التي دامت تقريبا شهرا بعد 14 كانون الثاني/جانفي لإعادة الأمن في البلاد.
انسحبت المؤسسة العسكريّة وتركت السياسةَ للسياسيين وإدارة الدولة للمدنيين، وبذلك انتزعت "الشرعيّةَ الثوريّة"، ونما حبُّ الشعب لها، وتألّق نجمُها لدى المجتمعات الدولية، فأصبحت المثالَ الذي يُذكر فيُمدح، حتى بلغ الأمرُ أن المواطنَ التونسيّ لم يهدأ له بال على نتائج الانتخابات، إلا حين رأى تأمين الجيش لها.
وانبرى العسكرُ يدافع عن الثغور فتكبّد خسائرَ وطنيّة في معركة تونس ضدّ الإرهاب التي أودت بحياة عشرات الجنود والضباط، الذي جعله يحصل على أعلى درجات الثقة بين التونسيين ومزيد من التعاطف والتقدير.
عملت الحكوماتُ بعد 14 كانون الثاني/جانفي 2011 إلى 25 تموز/جويلية 2021 على دعم المؤسّسةِ العسكريّة، ولم تقف عائقا أمام حصولها على قدر متزايد من المساعدات العسكرية، بل لبّت المؤسسةُ التنفيذيةُ بل والتشريعية أيضا رغباتِ الجيش قدرَ الإمكان ودعّماه، فقامت علاقةُ ثقة بين مؤسسات الدولة، حتى رأينا عدة عسكريين في مناصب مدنيّة. وانتهت المقولة البورقيبية وحلّ محلّها مقولة التوازن بين مؤسسات الدولة لحماية مدنيّتها، فلم نسمع عن قضايا تُرفع ضدّ المدنيين في محاكمة عسكرية، ولا يتدخل المدنيّ في العسكري.
ساعد قرارُ الجيش الوطنيّ بابتعاده عن الحياة السياسية، على تسهيل الشراكة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية والشركاء الإقليميّين كالجزائر وتركيا. قرارٌ أدى دورا مهما على تطوير الجيش وتحديثه؛ فشارك في عدة مناورات عسكريّة، وتحصّل على معدات وآليات عسكريّة متطوّرة، واجتهد من جهته في إصلاح مؤسسته وفلسفته الدفاعية في مكافحته للإرهاب.
كانت المساعدة والاستفادة منها مقيّدة بعدد من الحقائق السياسية والتزام مؤسسات الدولة والعسكر، خاصة بمسار مدنيّة الدولة.
دور الجيش بعد 25 تموز/جويلية 2021:
اجتماع 25 تموز/جويلية غابت عنه وجوهٌ كان حضورُها مفترضا حتى يُعلن على مثل هذا التحوّل الجلل، فوقع في مجلس أمن ضيق، وكان الأولى أن يكون عقب اجتماع مجلس الأمن القومي، لكن غياب وزير الدفاع رشّح فرضيةَ أنّ في المؤسسة العسكريّة شقوقا وتوجّهات مختلفة، ومن جهة أخرى فقد يُفهم أن وجودَ المدرعات أمام بعض المؤسسات السّيادية بل وفي ساحة البرلمان، سببُه أولا غياب وزير الداخلية، ومن ثم غياب المؤسسة الأمنية، وأنّ الجيشَ المكلّفَ بحماية المؤسسات تحت إمرة القائد الأعلى للقوات المسلحة.
أما ما يُفسّر خضوعَ مؤسسات الدولة لقيس سعيد، غيابُ المحكمة الدستورية أولا وأخيرا.
أعتقد جازما أن القيادة العسكريّة والأمنيّة لم تكن تنتظر أن تطول مدّة الاستثناء، وأن الدّولة المدنيّة كانت ستعود بعد شهر من الانقلاب، لكن قيسا استدرج المؤسسات بالتسويف وحلول ترقيعيّة. وإني على يقين أنّ الجيش يعلم أنه في وضعيّة لا يُحسد عليها؛ إذ إنّ وضع البلاد يزداد سوء يوما بعد يوم.
لكن ومع الخروج الفاضح على دستور 2014 ومهزلة الاستفتاء ومأزق الحريات الفرديّة والتدخل السافر في القضاء وتتالي المحاكمات العسكرية، يتساءل التونسي الغيور على وطنه: هل نحن أمام مشهد سياسي جديد؟ فكلّنا وطنيّ من موقعه.
إن العالم بعد سقوط حائط برلين، أصبح في عالم الليبرالية الاقتصادية والقبول مع الآخر ومحاولة الابتعاد عن الحروب، وتونس وقّعت معاهدات كثيرة أهمها Gate سنة 94 والشراكة مع الحلف الأطلسي مع الباجي، إضافة أن تونس منذ الحرب العالمية الثانية، سلكت طريقها مع الخط الأوروبي والأمريكي ولم تخضع لاستمالة الاتحاد السوفياتي، ولذا فقد تلقت مساعدات كثيرة بعد الثورة لتحسين نموِّها وتقويم عودها، فالجيش نفسه منذ سنة 74 أصبح تدريبه تقريبا كلّه في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولإن أضفنا البطالة والوضع الصحي وقلّة الموارد الاقتصادية وغياب الإنتاج القومي وعدم استيعاب المشروع الديمقراطي كمؤسسات وشعب، وأن الانتقال يحتاج إلى صبر وعناء كبيرين حتى تتكوّنَ الشخصيّة التونسيّة التي ستستكمل الطريق التشاركي في رخاء.
الإشكال الأكبر:
الرجوع إلى ما قبل 25 تموز/جويلية يكاد يكون مستحيلا، لكن الاستمرار على ما عليه الآن تونس، أمر من قبيل الخيال.
يعلم الجيشُ أن مواصلته في مساندة من لا علاقة له بالسياسة بات حِملا ثقيلا ومأزقا مؤرقا، كما يعلم أنه إنْ أُلزم على استلام السلطة، فتونس كدولة ستُعزل دوليّا بل أفريقيّا، وستتوقّف الإعانات التي يحتاجها البلد لاستعادة حياته، ولا يفوته أن السلطة تعيي الممسك بها وتجعله معرضا للنقد، كما أصبح واضحا أن نظرة التونسيين له بدأت تتغيّر، والأهمّ أن المعركة بينه وبين قيس آتية، وأن قيسا سيُعيد المقودَ في يد الداخلية بعد السيطرة عليها كلّيا؛ إذ إنّ الجيش لا يمكن التسلّل إليه.
فهل يستطيع الجيشُ تحمّل تبعات بقاء قيس في الحكم؟ وهل سيستفيد من دروس الذين من حولنا، وما الجزائر وليبيا عنّا ببعيد؟
عندما يأتي نحّاتٌ لدمية من صلصال فيعركها لإعادة إخراجها، فالكلّ ينتظر دمية أجمل ممّا كانت، أمَا وأنّ النحّات لا علاقة له لا بالصنعة ولا بالصلصال، فإن الخرابَ نتيجةٌ حتمية.
قيس سعيّد الذي يعيش عالما من كوكب آخر ويرى نفسه نبيّا مرسلا للعالمين، لا علاقة له بالسياسة ولا بالاقتصاد ولا بالحياة الاجتماعية ولا حتى بالأعراف الديبلوماسية، بل هو جامدٌ كالماء الذي لا يسيل، يرتع وينحت بلدا على مقاس في خياله، وما ينحت إلا دهاليزَ مظلِمة لجيل مستقبل بلدنا.
فهل لمن وقفوا معه وخدعهم لتحقيق انقلابه على الشرعيّة ثمَّ عليهم أن يوقفوا الاستنزاف؟
وهل سيثبِّت الجيشُ المقولة أنّ الشعبَ لم يصلْ بعدُ مرحلةَ الرشد والوعي والنضج ليُسمح له تحديد مساره في حكم تشاركي ديمقراطي، يعلوه دستورٌ وتُفصل فيه السلطُ، أم إنّ الوعيَ والنضجَ أخطأا طريقَهما لمّا طرقا الباب يوم 14 كانون الثاني/جانفي على تونس؟
وعلى الرغم من كلّ هذا، يبقى الجيشُ التونسيّ مدنيا لطبيعة تكوينه ولطبيعة شعبه، كما أنّه يمثّلُ الملجأَ الأخير قبل الولوج في الفوضى، وما الفوضى عنّا ببعيد.
فهل يُصلِح ما فسد؟
ما حقيقة الموقف الدولي من "الجمهورية الجديدة" في تونس؟
المرأة المسلمة بين الشريعة الأصيلة والقوانين الدخيلة
ماذا بعد ختم الدستور التونسي الجديد والإذن بإصداره؟
هنيئا لهنيّة والبكاءُ والعويلُ على من أخطأ التقدير وأبت عليه الشهادةُ