قضايا وآراء

الانتخابات ورؤية من خارج السرب

سأقاطع حتى لا أكون شاهد زور على انتخابات غير شرعية ومزورة وإن لم تزور عينيا فهي مزورة حقيقة ومعنوية، ولن أشرعن باطله وسبله.. الأناضول
"الشيخ راشد الغنوشي" فرج الله كربه ورفع شأنه، سألني بعد تكوين جبهة الخلاص، عن رأيي في المشاركة في الانتخابات الرئاسية، فكان ردّي واضحا وقاطعا، أنْ ليس من مصلحة الإسلاميين المشاركة فيها، سواء كانت المشاركة فعلية أو بالوكالة، فتلك جولة وصَوْلة لا مصلحة للإسلاميين فيها، بل ولا خير فيها لتونس، فنظام قام على انقلاب يجابه بالصبر والتفكر وتوعية الشعب ليأخذ حقه بيده فينتصر لمبادئه، وحقَّ للشعب أن يتطلع للتغيير مجتمعا، وإن أبى الشعبُ غير ذلك فهنيئا لهم بما استخفّهم به فرعونُهم.

والانقلاب آلية التداول التعسفي على السلطة، بينما الانتخابات آلية التداول السلمي عليها. والضدّان لا يجتمعان.

ولذا، فالمشاركة في انتخابات ينظمُها المنقلبُ اعترافٌ ضمنيّ بالانقلاب ذاته، وليصبح الانقلاب حلا طبيعيا ومقبولا لبعض الحوادث عند الأزمات، وما هو إلا استعلاء فرعونَ "وما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، فالمشاركة إنْ هي إلّا تدنيس لعقود من المقاومة، وتشريع لمباركة المنقلبين، وهي كمثل من يأخذ من جسمك إصبعا ليستعبدك بعد حين.

فإن كان المبدأ لا يمكن تجزئته، فالسياسة ليست إدارة للمبادئ، بل هي إدارة للمصالح داخل قواعد دنيا مبدئية؛ "فالحرة لا تأكل من ثديها" و"النار ولا العار" "لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه"، فقد دعيت إلى ندوات تدعو إلى المشاركة لتوحيد الصف والبحث عن مرشح مشترك لدخول الانتخابات، فلم أشارك وبقيت من الرافضين لأسباب سأذكرها لاحقا.

ويمكن تقسيم تلك الدعوات  إلى فترتين:

الفترة الأولى: ما قبل السماح بالترشحات للانتخابات الرئاسية، وكانت ميزة الأسماء المطروحة فيها أنّ معظمهم لهم موقف رافض للانقلاب غالبا. والفترة الثانية: أي بعد أن سمح النظام الانقلابي بفتح باب الترشحات للانتخابات الرئاسية، ظهرت أسماء أخرى مختلفة التوجهات، وذات مواقف متباينة من الانقلاب.

ـ المشاركة اعتراف ضمني بالمنقلب وتمشيه، وتشريع هجين على أنّ الانقلابَ حلٌّ في عقد اجتماعي يرمي إلى احترام إرادة الشعب وخياراته في حالة الأزمات، وهذا مبدأ مرفوض ولو كان سياسيا.
أما موقفي الرافض، فثابتٌ لأسباب أهمها سبعة:

1 ـ القرار السياسي تأتي نتيجتُه بعد زمن ليس بالهين، فقد تمر أجيال واجيال عدة، ولكن نتيجته حتمية؛ فارتطام القلم بالأرض بعد فتح الأصابع سنة حتمية، الفارق، المسافة التي تلقيه منه، أما صراخك أو تصفيقك، فلن يزيد أو يقصر لا في الوقت ولا في المسافة الضرورية للسقوط، ولا يلغي حدث الارتطام.

ناهيك أنّه انقلاب على خيار شعب، من مخادع حلف على القرآن فأخلف، ومن مجهول جاهل في عالم السياسة لا يرى نفسه إلا نبيا، فهو فوق المحاسبة، استخف بمقاصد الحرية والديمقراطية بعد دكتاتورية عاتية.

انقلاب جاء واقتصاد البلد يزداد انهيارا يوما بعد يوم، كل ذلك في عالم لا تخفى فيه معلومة إلا وكشفت. وعليه، فحتمية سقوط الانقلاب مسألة وقت، ولن تتأخر لا محالة.

2 ـ المشاركة اعتراف ضمني بالمنقلب وتمشيه، وتشريع هجين على أنّ الانقلابَ حلٌّ في عقد اجتماعي يرمي إلى احترام إرادة الشعب وخياراته في حالة الأزمات، وهذا مبدأ مرفوض ولو كان سياسيا.

3 ـ المشاركة في هذه الانتخابات، وهو خيار اليأس، واليأس توأم الوهم، فهي تدنيس لعقود من المقاومة والصبر والشهداء، فإن نجح المنقلِب فسيثبّت طريقه ويحتج على المشارك فيها بالقبول به كقائد وبقانون لعبته، وإن لم ينجح فقد خرج بانتخاب بلا حساب ولا عقاب، ومن ثم قبول "تحت الطاولة" بالانقلاب على أنه عمل إصلاحي، ونبذ لعشر سنين من محاولة التعايش السلمي التونسي.

4 ـ أقول لمن يتكلمون عن الشفافية في الانتخابات؛ إنّها لا تهمّ إلا طائفة من الناخبين، تلك التي لن تقرر إلا في الدقيقة الأخيرة من تنتخب؛ فعادة الشفافية في الانتخابات سلاحُ الحاكم، إذ بيده أدوات الدولة والاتصال، فتزيد في شعبيته إن أحسن إدارتها، ولا مجال لذكر الأمثلة هنا فهي عديدة.

5 ـ لقد سبق لي وأن أكدت سنة 2012، أنّ الخروجَ عن التوافقات السياسية بين العاملين بها، تعني أنّ المصالحة بين مؤسسات الدولة والشعب وممثليهم ستفقِد تونس ما اكتسبته بعد ثورتها، وستنتهي إلى فوضى في البلد ضرورة، فوضى تؤدي حتما إلى تقاتل غير منظم. قلت يومها: "لن يعلم القاتِلُ لِمَ قَتَل ولا المقتولُ لِمَ قُتِل".

فالوضع اليوم يزداد في اتجاه الأزمة في علاقة بيانية معقدة تحت مفعول الحالة الاقتصادية والأمنية، فعجلة الإنتاج متوقفة، وعليه فالأداءات تنقص وهيبة السلطة تضعف، حتى ينهار الأمنُ الاجتماعي في ظل انتشار الخوف والجوع وغياب الخدمات من صحة ومثلها، وكل ذلك يدفع لزيادة في الجريمة، ونمو الإجرام إضعاف للدولة، وباب لفتح الدفاع عن النفس بالمقاومة غير المنظّمة، ولقارئ للتاريخ أن يستقرئ تاريخ تونس وغيره.

6 ـ التغييرات السياسية الكبرى سواء العالمية منها أو الإقليمية والأطماع التي تحوم حول تونس لأهميتها كموقع جيوسياسي استراتيجي، لا يمكّن من العاملين فيه ومن حوله التعامل مع المنقلِب إلا بحذر شديد؛ إذ إنه غير محسوب. فالغرب وإن كان حليفا، فمصالحه أهم من تونس، فالحرب الأوكرانية قد أثرت على اقتصاده وأنهكته، أضف ما تؤثر فيه الحرب في غزة ولبنان ودخول إيران على الخط والتهديد الروسي، وأن أمن إسرائيل أصبح مهددا، كل هذا وأكثر، لا يجعل لتونس حظا كبيرا كما كان، وإذا ما أضفنا الحلف الصيني الروسي والصراع الخفي حول ليبيا وأمن الجزائر، فذلك كلّه يجعل من استحالة إفراز سياسة خارجية تونسية، تستجلب التمويل الذي قد يعيد اقتصاد البلد فيكفيها التداين، ويجعلها تعمل في اكتفاء ذاتي دنيوي. ولن يبق غير التهريب سلعا للحياة والتهريب يقوم على الإجرام الذي ستزداد سطوته، في علاقة بضعف السلطة فتتفكك الدولة.

المشاركة في هذه الانتخابات، وهو خيار اليأس واليأس توأم الوهم، فهي تدنيس لعقود من المقاومة والصبر والشهداء، فإن نجح المنقلِب فسيثبّت طريقه ويحتج على المشارك فيها بالقبول به، كقائد وبقانون لعبته، وإن لم ينجح فقد خرج بانتخاب بلا حساب ولا عقاب، ومن ثم قبول "تحت الطاولة" بالانقلاب على أنه عمل إصلاحي، ونبذ لعشر سنين من محاولة التعايش السلمي التونسي.
7 ـ البنية التحتية للبلد، واهتمام الشباب بالهجرة وخاصة ذوي الشهادات العليا، لا تعطي أملا لمستقبل قريب؛ لأنه بحاجة إلى أموال طائلة لاستعادة الطريق في عمل مشترك وزمن ليس بالقصير.

ولذلك، فسقوط السقف حتمي مهما كانت هوية القائد، فالأولى أن يسقط السقف على المنقلب ومن يسانده، حتى تجد المعارضة قاعدة مشتركة للتخفيف بعدها من ردة فعل السقوط.

ولمن يخالفني وجهة نظري وجدلا أني مخطئ في تقديري، وتواصلا مع ما يراه غيري من أن الانتخابات قد تعيد الحرية؛ فالديمقراطية وبكل أمن وأمان،

أقول

1 ـ من لم يندد يوم الانقلاب بالانقلاب، فأما بارك فيه أو سكت عنه، فحلول الانقلاب ساكنة فيه، فمن يضمن تعهده، وتنازله عن السلطة، إن لزم الأمر، ومن يضمن عدم إداته للعبة بشكل آخر،  وبيده دستور أعتى من دستور المشير محمد باي، الذي سبق محمد الصادق باي صاحب أول دستور تونسي سنة 1861. من يلزمه، وهو حسب دستور الانقلاب الوحيد المشرع، والدولة كلها وظيفيّة بين يديه لهواه؟

2 ـ ما هو برنامج المرشح حتى لا يقع سقف حتميّة ما أنتجه الانقلاب من دمار على رأسه، فينجو منه المنقلب، وقد يعود كمصلح ومخلص، وفي التاريخ أمثلة كثيرة.

3 ـ قطعا من يحسب أن قيسا سيترك الحكم له، أن انتخب، فسيفتح أبواب حرية الصحافة وحرية القول السياسي وسيفتح السجون، وهذا سيجعل من الشعب الذي خنع للسكوت فمسك صفا لساعات من أجل الحليب، أن يرفض الصف مرة أخرى ويطالب بكل رفاهية، ما سيدفع الدول المتآمرة على تونس لتحريك ما حُرِّك من قبل، لإرباك وضعها، فكيف له أن يجابه كل ذلك؟

4 ـ ما جعل الانقلاب يبقى لحد الساعة، هو عدم وجود حاضنة جدية وصلبة داخل النخبة السياسية والثقافية، فضلا على الاقتصادية والنقابية، وهو ما يجعل أي تغيبر معرضا للفشل منذ خطواته الأولى. وما لم تنجح النخب في إيجاد حاضنة في حدها الأدنى، رغم الوضع الكارثي في البلاد، فالخطر كبير يحيط بالوطن وأهله.

5 ـ إن كانت الدول لا تطمئن إلى عهود قيس لأنها تقوم عن النبوة، أما من سيخلفه فهو في حاجة شديدة إلى المال، ولذا فإن بيع تونس والاعتراف بالكيان أمران لا مفر منهما، وعليه، فإن جانب الحريات، وإن فُتح، سيغلق في أسرع وقت.

6 ـ مازال قسط من الشعب التونسي وأكثر الفاعلين السياسيين، يعتقدون أنه على الإسلاميين الابتعاد عن الشأن العام، ويوجهون لهم النقد فيما يحصل في البلاد في العشرية الأخيرة، ولم يتساءلوا أبدا لماذا سقط نظام بن علي وما قدمه المشاركون في العشر سنوات. إنّ ما ينتظره الفرقاء السياسيون من الإسلاميين، المشاركة لحملهم لسدة الحكم، ثم العودة إلى بيوتهم.

7 ـ حسب ما قمت به من حسابات مستعجلة، فإن استتباب الأمن لبداية جدية نحو النمو، في حاجة إلى ميزانية تونس أخرى حالا حتى يعاد بناء اقتصادها، فالبلد بحتاج إلى ترميم، والترميم يحتاج إلى وقت، وشعب يجهل الحرية وأبعادها ومتطلباتها، لن يكون مستعدا لإعطاء الوقت والصبر في التفاني لنهوض تونس.

8 ـ إصرار المرشحين على المشاركة الانتخابية، أظهر نية النظام الحالي المخفية والحقيقية أنه ضعيف خائف، ولكنه أظهر أيضا عدم تراجعه عن نيته الجامحة في الانتصار، ومن ظن أنه لن يزور الانتخابات قطعا إذا احتاج، فهو لم يستوعب المنقلب بعد، ومن ادعى أن تزويره ستصبح ورقة ضغط عليه في العالم الخارجي، وأمام شعب أسبَغ الخوفُ عليه رداءه، فقد أكون أبله.

وفي الآخر، لمن دعا للمشاركة أن يدفع المرشحيْن ليتنازلا لتقل نسبة المشاركة وتنزل عن 11٪؜، ليبقى وحيدا.

ما جعل الانقلاب يبقى لحد الساعة، هو عدم وجود حاضنة جدية وصلبة داخل النخبة السياسية والثقافية، فضلا على الاقتصادية والنقابية، وهو ما يجعل أي تغيبر معرضا للفشل منذ خطواته الأولى. وما لم تنجح النخب في إيجاد حاضنة في حدها الأدنى، رغم الوضع الكارثي في البلاد، فالخطر كبير يحيط بالوطن وأهله.
أما أنا، فأبقى مع المقاطعة، فكل مخرجات الانقلاب مرفوضة، حتى إذا ما سقط، سقط معه حصنه، وهو ساقط أعجل مما يظن البعض، لكننا قوم نستعجل الحكم لا النصر.

إن الدوافع لعدم المشاركة، لم أذكر منها إلا غيضا من فيض، ولذا فإني أدعو إلى الصبر والتصابر، فالصبر طريق العارفين، وعدم الفعل أحيانا هو الفعل المطلوب، ولْنهتمّنّ بالشعب وتوعيته، فالسقف ساقط لا محالة، فلنستعد.

هذا النظام يبحث عن نسبة المشاركة لا عن من سيزاحمه، فهو قد فتح طريقه للملكية والأيام بيننا، ومن استفتح طريقه بالغدر، فهيهات أن يغلقه بالعفّة والتوبة، ومن يعمره الله في الأرض لهوى في نفسه ينكسه في الخلق، إذ إنه على هدى فرعون، وأن إلهه هواه بيده وينتصر لمبادئه.

سأقاطع حتى لا أكون شاهد زور على انتخابات غير شرعية ومزورة، وإن لم تزور عينيا فهي مزورة حقيقة ومعنوية، ولن أشرعن باطله وسبله.

"فاصبر إن وعد الله حق.. فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم"

دعوه يحكم، فلن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا، فالشعب الذي يريده لن يأذن الله في استخلافه، إلى أن يغير ما بحاله، فالجزاء لا يكون إلا من جنس العمل.